الأربعاء، 2 مارس 2016

معاهدة التغير المناخي في العناية المُركزة


أرجو أن تسترجعوا ذاكرتكم معي إلى الوراء قليلاً، وبالتحديد إلى مساء يوم السبت 12 ديسمبر من العام المنصرم حيث وصَلتْ قمة التغير المناخي في باريس إلى المرحلة النهائية الأخيرة والحاسمة بعد أكثر من أسبوعين من المفاوضات الماراثونية بين دول العالم، فقام عندها وزير الخارجية الفرنسي لورانت فابيوس رئيس المؤتمر بِرَفع يديه فضرب بمطرقته الخضراء البيئية المـُصَممة خصيصاً لهذا اللقاء البيئي طاولة المنَصَة التي يجلس عليها كِبار القوم والمسئولون عن قضية التغير المناخي على المستوى الدولي، وهم الرئيس الفرنسي هولند، والأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون،والسكرتيرة التنفيذية للاتفاقية الإطارية للتغير المناخي، وما أن نزل وزير الخارجية الفرنسي يديه حتى قام الجالسون على المنصة من مقاعدهم مصفقين ورافعين أيديهم ثم شبكوها مع بعض رمزاً للتضامن وتحقيق النصر الكاسح والمبين، ولم تمض ثوان إلا وقام جميع الجالسين في قاعة المؤتمر وكافة الوفود المشاركة وهم يُصفقون ويُكبرون وكأنهم صدى الصوت للجالسين في المنصة، وبدأ كل واحدٍ منهم يهنئ الآخر مرحبين بما تمخضت عنها القمة، وأَوْهموا العالم بأنهم حققوا نصراً مؤزراً على تهديدات وانعكاسات التغير المناخي وارتفاع درجة حرارتها. 

 

وهذا المشهد العاطفي الدرامي المثير انعكس فوراً على تصريحات قادة دول العالم حيث وصف أوباما المعاهدة بأنها: "أفضل فُرصة لحماية كوكبنا الوحيد"، وأضاف قائلاً:"الاتفاقية ليست مثالية، فالمشكلات لن تُحل بسبب هذه الاتفاقية"، وردد وزير الخارجية الأمريكي تصريحات رئيسه قائلاً:"هذا نصر كبير لجميع مواطنينا". وعلى الأنغام واللحن نفسه غَنى باقي الزعماء الأوروبيين، حيث أكد الرئيس الفرنسي قائلاً: "كانت هناك ثورات كثيرة في باريس خلال القرون، واليوم تُعد هذه الثورة الأجْمَلْ والأكثر سلمية...ثورة للتغير المناخي"، وقال رئيس الوزراء البريطاني واصفاً الاتفاقية بأنها:"خطوة كبيرة للأمام لتأمين مستقبل كوكبنا". كما قال الأمين العام للأمم المتحدة بأن:"التاريخ سيتذكر هذا اليوم، فاتفاقية باريس تعداً نجاحاً لكوكبنا والإنسانية".

 

وبالرغم من هذه التصريحات النارية والمطمئنة، إلا أنني في حِينها أبديتُ تشاؤمي من واقعية تنفيذ الدول لهذه المعاهدة، وبالتحديد الولايات المتحدة الأمريكية بسبب الخلافات الحادة والجوهرية بين الجمهوريين والديمقراطيين على قضية التغير المناخي وعدم وضوح الرؤية بالنسبة للرئيس القادم، واليوم تأكد لي أن تشاؤمي كان في مَحَله، وأنني كنتُ مُحقَّاً من عدم ارتياحي من جدية تصريحات القادة والزعماء.

 

فقد قَررتْ المحكمة الأمريكية العليا في التاسع من فبراير من العام الحالي، تجميد تنفيذ خطة أوباما للتغير المناخي، حيث كانت هذه الخطة هي العمود الفقري لسياسة أوباما حول ارتفاع سخونة الأرض والتغير المناخي لكوكبنا، والتي اعتمدت أساساً على خفض انبعاثات الغازات المتهمة بالتغير المناخي ورفع درجة حرارة الأرض والتي مصدرها الرئيس من محطات توليد الكهرباء والطاقة، وبخاصة التي تعمل بوقود الفحم. وهذا الحُكْم يُعد نصراً مرحلياً للجمهوريين وجماعات الضغط التي تعمل لصالح صناعة الطاقة المعتمدة على الفحم، ويُعتبر ضربة قاصمة للرئيس أوباما وخطته لتقوية ودعم مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة.

 

فهذه الخطة التي رفضتها المحكمة العليا كانت ضمن التزامات أمريكا أمام المجتمع الدولي، وكانت تقع على رأس تعهداتها التي قطعت بتنفيذها أمام الملأ في قمة باريس للتغير المناخي، مما يعني أن معاهدة التغير المناخي التي كَبَّر وهَلَّل لها كل دول العالم، واعتبروها نصراً حاسماً لجهود مكافحة التغير المناخي الدولية، أصبحت الآن مُهددة بالزوال، وفي خطرٍ شديد من عدم إمكانية تنفيذها في السنوات القادمة.

 

كما أن المشهد الأمريكي الحالي يُهدد بأن تلقى معاهدة باريس للتغير المناخي المصير نفسه الذي وقع فيه بروتوكول كيوتو من قبل، فالسيناريو ذاته أراهُ أمامي الآن بكل جلاءٍ ووضوح، فعندما وَقَّعت أمريكا في عهد الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون على بروتوكول كيوتو لعام 1997،جاء جورج بوش ومعه الأغلبية الجمهورية في الكونجرس وامتنع عن التصديق عليه وانسحب كلياً من هذا البروتوكول، فأدى في نهاية المطاف إلى انهياره على المستوى الدولي، وانتهت كل الجهود المضنية والماراثونية التي بذلتها دول العالم ومنظمات الأمم المتحدة المتعلقة بالتغير المناخي.

 

والأيام القادمة هي التي ستكشف لنا مصير معاهدة باريس، وهل ستذهب مع الريح، كما ذهب بروتوكول كيوتو؟

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق