الأربعاء، 9 نوفمبر 2016

الآن نَعُضُّ أصابع النَدَم



منذ سنوات وأنا أُنبه من المرض المزمن الذي أخذ ينزل على ثروتنا السمكية ومصدر غذائنا الفطري الطبيعي الوحيد، ومنذ سنوات وأنا أؤكد على تدهور الثروة السمكية في البلاد يوماً بعد يوم وسنةٍ بعد سنة، وأحذر من أنها في انحسارٍ شديد وتراجعٍ مستمر في كل سنة، وبمعدلات متسارعةٍ ومخيفة.

 

فقد كتبتُ مراتٍ عدة، وتكلمت في مناسبةٍ كثيرة عن المرض الذي تقاسي منه الثروة السمكية بجميع أشكالها وأنواعها وأحجامها، سواء من ناحية الفساد المستشري الذي ألَمَّ بنوعيتها وأمنها الصحي، أم من ناحية الانخفاض السنوي الحاد في مخزونها وأعدادها، وبيَّنتُ وحددت العوامل المختلفة التي تؤثر عليها، وتضر بعافيتها، وتنقص أحجامها وأعدادها يوماً بعد يوم.

 

واليوم وقع من كُنت أُخوِّفُ منه، فقد هرعت سيارات الإسعاف مسرعة لإنقاذ هذه الثروة الربانية العظيمة وتقديم الاسعافات الأولية الطارئة اللازمة لنقلها عاجلاً إلى قسم الطوارئ والعناية القصوى، حيث أُلقيتْ هناك جثة هامدة في وحدة العناية المركزة وغرفة الإنعاش، وهي بالكاد تنبض بالحياة، فتجمع عليها الأطباء من مختلف التخصصات، وركبُوا على جسمها كافة أنواع الأجهزة والمعدات الضرورية واللازمة لانعاش ما توقف من أعضاء بدنها ودقات قلبها، وإبقائها فقط على قيد الحياة وجعل القلب يدق وينبض قبل أن يتوقف كلياً.

 

فالتقرير المنشور في وسائل الإعلام في الخامس من نوفمبر من العام الجاري يؤكد أن ثروتنا الحية الغالية التي عاش عليها الأجداد والآباء فعلاً قد نُقلت إلى غرفة الإنعاش، وأنها الآن تحتاج إلى عمليةٍ جراحية عاجلة وفورية دون أي تأخير، فوضعها الصحي في خطرٍ شديد وحالتها في نزيفٍ دائم، فكل دقيقة تأخير، أو تأجيل، تعني قُرب إصابة القلب بالشلل التام والتوقف عن النبض، ومن ثم نقل هذا الجسد إلى مثواه الأخير.

 

فقد أكد التقرير على أن نصيب الفرد البحريني من الأسماك قد انخفض بدرجةٍ مشهودة وخطيرة حيث تراجع من 18 كيلوجراماً في السنة للفرد الواحد في منتصف الثمانينيات من القرن المنصرم إلى 4.4 كيلوجرام للفرد في السنة عام 2014، وهذا الانهيار والتراجع في استمرارٍ شديد بحيث إنه أصبح الآن يهدد الأمن الغذائي الفطري للمواطن من جهة، ويقطع رزق الآلاف من المواطنين الذين تُعد الثروة السمكية هي مصدر رزقهم ورزق أُسرهم الوحيد.

 

ولا شك بأن هذا الوضع المأساوي العصيب الذي يعيشه هذا المورد الغذائي الفريد، لم يبلغ هذه المرحلة الكارثية فجأةً وفي وقتٍ قصير، أو بين عشيةٍ وضحاها، فمنذ أكثر من خمسين عاماً وأيدينا تقترف ذنوباً بيئية كثيرة، وترتكب آثاماً خطيرة تؤذي هذه البيئة البحرية المعطاة فتتعدى على حرماتها، وتهدم منازلها، وتقضي على أغلى وأثمن ما فيها من حياةٍ بحرية نباتية وحيوانية. 

 

ومن أشد المعاصي التي ارتكبناها في حق بيئتنا البحرية هي عمليات الحفر والدفن في المناطق الساحلية. فعمليات الحفر دمرت كلياً قاع البحر ومن يعيش عليه من أحياءٍ نباتيةٍ كانت أم كائنات بحرية من أسماك وروبيان وقواقع استوطنت في منطقة الحفر. وأما عمليات الدفن فهي الطامة الكبرى والمصيبة العظمى التي نزلت على البحر وحياته الفطرية، فهي أكلت من جسم البحر رويداً رويدا إلى الأبد وبدون رجعة، وقطعت أعضاءه الحيوية، وفي الوقت نفسه قضت كلياً على تلك المنطقة البحرية المدفونة وأَفْنت كل من عليها. وبالرغم من هذا التدمير الشامل الذي تحدثه عمليات الحفر والدفن، إلا أنها مازالت نشطة ومستمرة حتى يومنا هذا، وحتماً ستستمر دون توقف، ففي كل يوم أسمع عن منشآت ضخمة تُبني، أو ستبنى في البحر، وجميعها تكون في مناطق المد والجز البحرية التي تعتبر من أهم البيئات البحرية وأشدها تنوعاً وإنتاجية وثراءً.

 

وفي المقابل هناك العوامل الأخرى التي أوصلتْ حال البحر وثرواتها السمكية إلى ما نحن عليه الآن، منها شباك الجرف القاعية أو الكراف التي تستخدم لصيد الروبيان دون حسيبٍ أو رقيب، فعَمِلت شوارع في قاع البحر كالشوارع الترابية التي نراها في المناطق البرية، أي أنها حولت تلك البيئات البحرية المنتجة والمثمرة إلى صحراء قاحلة مقفرة لا ترى فيها عِوجاً ولا أَمْتا، ولا ترى فيها كائناً حياً ينبض بالحياة.

 

كذلك هناك المخلفات السائلة، سواء من مياه المجاري شبه المعالجة أو غير المعالجة، أو مياه بعض المصانع التي تُصرف في البيئات الساحلية فتؤثر مع الوقت على صحة الكائنات البحرية الموجودة في مناطق الصرف.

 

فكل هذه المؤثرات هي التي أصابت البيئة البحرية وحياتها الفطرية بالمرض العضال المزمن الذي أدخلها وهي مرفوعة على النعش إلى غرفة الإنعاش، ولا يمكن الخروج منها إلا من خلال تدخلٍ جراحي جذري وعاجل، لا يعالج فيه الجرح السطحي فقط، وإنما يلج إلى أعماقه وأسبابه الرئيسة، فيوقف فوراً كل مواقع نزيف الدم في بَدَنها السقيم المتهالك حتى يندمل الجرح كلياً ولا يرجع مرة ثانية.         

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق