الخميس، 31 يوليو 2014

المبيدات تُحير الإنسان



معضلةٌ حقيقية يواجهها الإنسان منذ سنوات، ولا يعلم حتى الآن المـَخْرج الآمن منها والعلاج الناجع والمستدام لها، فقد أوقعت هذه المعضلة الإنسان في حيرةٍ عظيمة، وأزمةٍ مزمنة وخانقة.


 


ففي القرون المظلمة كانت الأمراض المعدية كالطاعون والملاريا ومرض النوم والتيفوس تضرب بالإنسان ضربة قاضية مُوجِعة، فتنهش وتأكل بعمق في جسم المجتمع البشري، وتؤدي إلى هلاك الملايين من الناس في سنواتٍ قليلة، حتى تمكن الإنسان في مَعْمَله من إنتاج مواد كيميائية خارقة وفاعلة تقضي على مسببات ومصادر هذه الأوبئة من بعوض وبكتيريا وغيرهما، وأَطلق عليها بالمبيدات، وفي مقدمتها المبيد الحشري المشهور الـ دي دي تي.


 


فمع ظهور هذه المبيدات واستخدامها على نطاقٍ واسع وكبير، تمَكن الإنسان من القضاء كلياً على هذه الأمراض المعدية والمستعصية، حتى أصبحت من أمراض القرون الغابرة التي مضى عليها الدهر، فارتاح الإنسان بُرهة من الوقت، واحتفل بهذا النصر الكبير وتحقيق هذا الإنجاز التاريخي الصحي غير المسبوق في تاريخ البشرية.  


 


ومضت الأيام والسنون والإنسان في غفلة لا يدري ما يدور حوله وفي بيئته من تخريبٍ ودمار غير مسبوقٍ أيضاً. فهذه المبيدات التي أدخلها بيديه في بيئته، وبالتحديد الـ دي دي تي، هي مركبات عضوية متعددة الحلقات وتحتوي على عنصر الكلور السام، وكان الإنسان يجهل الخصائص البيئية لهذه المركبات من حيث مصيرها النهائي عندما تدخل في مكونات البيئة من ماءٍ وهواءٍ وتربة. فمن صفات هذه الملوثات التي لم يعلم عنها الإنسان شيئاً، أنها مركبات ثابتة ومستقرة، أي أنها لا تتحلل في البيئة، ولذلك فإن تركيزها زاد وارتفع مع الوقت، ثم بدأ يتراكم شيئاً فشيئاً وعبر السنين في أجسام الكائنات الحية من إنسان ونبات وحيوان، حتى أصبح هذا المبيد جزءاً لا يتجزأ من كل عضو في أجسامنا بما في ذلك حليب الأم، وفي الوقت نفسه تراكم هذا السُم القاتل أيضاً في المياه السطحية وفي أجسام الطحالب والأعشاب المائية ومن ثم انتقل إلى الأسماك، وأخيراً وصل إلى الطيور المائية والإنسان، فأدى إلى انقراض أعدادٍ كبيرة من هذه الطيور التي تتغذى على الأسماك، وأصاب الإنسان نفسه بأمراضٍ خطيرة ومزمنة، ولذلك فإن هذا المبيد الذي أنقذ البشرية من أمراضٍ معدية قديمة، هو نفسه أوقع الإنسان والحياة الفطرية في أمراضٍ جديدة لم يعرفها الإنسان من قبل!


 


فاضطر الإنسان عندئذٍ من مراجعة موقفه من هذا المبيد، فقام الرئيس الأمريكي الأسبق جون كيندى في الستينيات من القرن المنصرم بتشكيل هيئة خاصة تسبر غور هذه القضية وتقدم خارطة طريق جديدة للتوفيق بين حسنات هذا المبيد وسيئاته، فقامت أمريكا بمنعه وتقنين استعماله في أضيق المجالات.


 


واليوم أقفُ معكم مع مبيدٍ آخر، ومشهدٍ جديد، ولكن يحكي القصة نفسها، وكأن الإنسان لا يريد أن يتعظ من أخطائه ولا يريد أن يتعلم من زلاته. ففي الثمانينيات أنتج الإنسان مجموعة جديدة من المبيدات أَطلق عليها نيونيكوتينويد(neoni­cotinoid)، كبديل أقل دماراً من الـ دي دي تي ومجموعة المبيدات القديمة السامة، وبعد عقودٍ من استخدامها تبين أنها أيضاً سامة وقاتلة للحياة الفطرية التي يعتمد عليها الإنسان في حياته. فقد نشرت مجلة "الطبيعة" الموثوق بها عالمياً بحثاً في يوليو من العام الجاري يؤكد فيه أن هذه المبيدات تؤثر على مستعمرات نحل العسل من الناحيتين النوعية والكمية، وأدت بالفعل إلى انخفاض أعدادها بدرجة ملحوظة، وبالتالي فهي تنذر بانقراض الطيور التي تتغذى على النحل والحشرات الصغيرة، وقد توصل هذا البحث إلى هذا الاستنتاج من خلال مراقبة 15 نوعاً من الطيور في الحقول والأراضي الزراعية التي تُستخدم فيها هذه المبيدات، إضافة إلى أن هذه المبيدات تدمر السلسلة الغذائية برمتها، فهي تدخل في التربة والمياه السطحية فتتراكم فيها، ثم تنتقل إلى الكائنات الحية التي تعيش ضمن النظام البيئي من ديدان وحشرات وطيور صغيرة فتؤثر على سلامتها وأمنها الصحي وتخفض من إنتاجها الحيوي مع الوقت، وفي نهاية المطاف تؤثر على صحتنا وسلامتنا.


 


فهذه المبيدات، الجيل القديم منها والحديث، أَوقعتْ الإنسان في حيرةٍ شديدة، وورطةٍ كبيرة، فهو يحتاج إليها في قتل الآفات كالأعشاب الضارة، والحشرات، والفطريات، والقوارض، والطحالب، ولكنها في الوقت نفسه ومع مرور الزمن تُعرض الإنسان وبيئته لمخاطر صحية لا يمكن علاجها، فماذا سيفعل الإنسان في المستقبل لفك رموز هذه المعضلة، وتصميم معادلة متوازنة ودقيقة يمكن من خلالها الاستفادة من المبيدات دون إلحاق الضرر بنفسه وبيئته والكائنات الحية التي تعيش معه؟


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق