الجمعة، 2 يناير 2015

"بعد خراب البصرة"



من الأمثال الشعبية القديمة المشهورة والشائعة في البحرين وفي الخليج عامة، والتي تتداولها الألسن بشكلٍ يومي، ونضربها دائماً في مناسبات عدة هي "بعد خراب البصرة"، ولا أريد هنا أن أدخل في تفاصيل مصدر هذا المثل، وأصله، وتاريخه، والروايات المتعددة التي تبحث في هذا الموضوع، وإنما ما يهمني هو استخدام هذا المثل وفي أية مناسبة، حيث إنه يستعمل عند قيام الإنسان بعمل، أو إنجاز مهمة محددة ولكن بعد فوات الأوان، وبعد فترةٍ زمنيةٍ متأخرة عندما وقع الضرر وانتشر وعم َّالفساد، وأصبح هذا العمل غير مجدٍ، وغير نافع.

وهذا المثل اليوم أضربه على الحالة الصينية، فالحكومة الصينية شرعت الآن بسن قوانين صارمة لحماية البيئة وثرواتها ومواردها الطبيعية، وبدأت بالحزم والتشديد في تنفيذ هذه القوانين والأنظمة، وفرضت غرامات كبيرة على المخالفين والمتجاوزين، وآخرها فرض المحكمة الصينية العليا لغرامة وقدرها نحو 26 مليون دولار على ستة مصانع لتلويثها لماء النهر في مقاطعة جيانسو في 31 ديسمبر عام 2014، ولكن كل هذه التشريعات والإجراءات العقابية الغليظة جاءت بعد "خراب البصرة"، أي بعد أن نزلت كربٌ ومحنٌ عظيمة على الموارد البيئية الحية وغير الحية من مسطحات مائية وأحواض جوفية، وهواء، وتربة، وكائنات فطرية حية بشقيها الحيواني والنباتي، فأدت إلى انكشاف وظهور فسادٍ عظيم، وتدهور مدقع شديد من الناحيتين الكمية والنوعية، ليس على مكونات البيئة فحسب، وإنما بلغت صحة وأمن الإنسان إلى درجةٍ كبيرة وواسعة ومشهودة لا يمكن إخفاؤها أو تجاهلها.

وقد تمثل هذه التدهور في بيئة الصين وصحة المواطن الصيني بسبب التلوث في النقاط التالية:
أولاً: تفيد التقارير الحكومية أن قرابة 70% من أنهار وبحيرات الصين ملوثة، إضافة إلى أن 85% من أنهار الصين غير صالحة للشرب، كما أن نحو 60% من المياه الجوفية مسمومة وغير صالحة للشرب والاستهلاك الآدمي أو الحيواني أو النباتي. 
ثانياً: أكدت التقارير الحكومية أن قرابة أن 19.4% من الأراضي الزراعية مسمومة بملوثات خطرة تهدد صحة الإنسان والكائنات الفطرية النباتية والحيوانية، وهي العناصر الثقيلة مثل الكادميوم والنيكل والزرنيخ والزئبق والملوثات العضوية، مما يعني أن الغذاء الذي يتناوله المواطن الصيني قد يكون مسموماً ويسبب له الأمراض المستعصية.
ثالثاً: اعترفت التقارير الحكومية عن وجود نحو 459 قرية سرطانية منكوبة، أي قرى ترتفع فيها مستويات الإصابة بالسرطان مقارنة بالقرى والمدن الصينية الأخرى.
رابعاً: تلوث الهواء الجوي بالضباب السام وصل إلى درجةٍ لا يمكن السكوت عنه أو تجاهله، فقد اعترفت كل القيادات الصينية، ولأول مرة، بواقعية هذه الظاهرة المرضية القاتلة، وتأثيرها المدمر على الصحة العامة.
خامساً: الصين اليوم في ورطةٍ كبيرةٍ ومُـحرجةٍ في الوقت نفسه بسبب تدهور وفساد البيئة وسوء نوعية الأغذية ومياه الشرب، وهي تتمثل في الحفاظ على الكفاءات العالية والخبرات الطويلة من رجال الأعمال والتنفيذيين من الأجانب والصينيين من جهة، ومحاولة استقطاب دماءٍ جديدة وخبرات فنية متطورة للعمل في بكين، أو المدن الصينية الكبيرة المعروفة، فمعظم هذه القيادات والكفاءات النادرة تهرب الآن من الصين بحثاً عن بيئةٍ صحية وسليمة وخالية من الملوثات.
سادساً: التداعيات الاقتصادية للتدهور البيئي بلغت رقماً صعباً يرهق كاهل الميزانية الحكومية، حيث قُدرت كُلفة الدمار الشديد الذي وقع على جميع مكونات البيئة وصحة الإنسان بقرابة 222 بليون دولار أمريكي في عام 2009، وارتفع في عام 2010 بنسبة 9.2%. كما أكدت التقارير أن الصين صرفت في عام 2010 فقط نحو 3.8% من الناتج المحلي الإجمالي(GDP) على المشاريع الخاصة بإعادة تأهيل البيئات المتضررة في البر والبحر والنهر، ووضع أجهزة التحكم والمعالجة على مصادر انبعاث الملوثات الغازية والسائلة، إضافة إلى معالجة المخلفات الصناعية الصلبة وشبه الصلبة والخطرة. 

ولذلك وانطلاقاً من هذه التقارير والإحصاءات الحكومية الواضحة، ألا ترون أني محق في ضرب مثل "بعد خراب البصرة" على الحالة الصينية؟ 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق