الثلاثاء، 27 يناير 2015

التلوث ينْخر في بَدَن تاج محل


شاهدتُ اليوم صورة مؤثرة لأحد أعظم صروح التراث المعماري الإسلامي التاريخي العريق، وهو في حالةِ معاناةٍ شديدة، واحتضار الساعات الأخيرة، فقد رأيتُ أجهزة البناء مثبتة على وجهه، ومعدات التشييد والصيانة تملأ قبته الأثرية الجميلة، والسقالات(السكالات) اكتظت بجسمه العليل، وفوقها مئات العمال يتسلقون أعضاء جسمه كتسلق النمل فوق غصون الأشجار، فكل واحد منهم يقوم بمهمته ودوره لإنقاذ هذا البناء العالمي الفريد من نوعه.

 

هذا الصرح هو تاج محل في الهند الذي انبهر بجماله وتنسيق بنائه علماء الهندسة المدنية والعمارة، وفنيو التصميم الخارجي والداخلي، وحرفيو التشييد والرسم والتصوير، فهو يُعد بذلك من أروع وأجمل تحف التصميم والبناء في العالم، فهو فريد من نوعه من حيث أنه يمثل مزيجاً رائعاً وجذاباً من العمارة الإسلامية، والمغولية، والهندية، والتركية، والفارسية، حتى أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم(اليونسكو) أعلنت هذا البناء العظيم من ضمن مواقع التراث العالمي الثقافي في عام 1983. 

 

فتاج محل أصيب الآن بداء العصر، ومرض القرن العشرين، وتفشت في جسمه الملوثات، فدخلت وانتشرت في أعماق كافة أعضائه منذ عشرات السنين، حتى بلغ مرحلة الشيخوخة المبكرة، فانكشفت آثار هذا التلوث على بدنه، وظهرت عليه أعراض مرضية لا يمكن إخفاؤها أو تجاهلها، إذ تحول لون القبة الرخامية الناصعة البيضاء التي تسر الناظرين إلى اللون البني الكريه الذي يُنفِّر الناظر ويبتعد عنها المشاهد، وبذلك احتاج إلى تدخلٍ جراحي سريع، وعمليةٍ طويلة لإعادة الروح إلى جسمه، والقلب إلى نبضه وحيويته. 

 

ومن أجل إجراء هذه العملية الجراحية العاجلة لهذا الصرح العليل، اجتمع أفضل علماء الهند والولايات المتحدة الأمريكية لأول مرة فشرعوا أولاً بتشخيص المرض الذي يعاني منه، وتحديد أعراضه بشكلٍ كامل ودقيق، ثم عملوا على تحديد نوعية التدخل الجراحي، وأخيراً وصفوا الدواء العاجل والشافي لإكمال كل جوانب العلاج. فجاء هؤلاء العلماء متحدين لإنقاذ تاج محل حاملين معهم أجهزتهم وعتادهم ومعداتهم، فأخذوا عيناتٍ من الهواء الجوي الذي يحيط بتاج محل لمدة شهرين كاملين، إضافة إلى عيناتٍ صلبة من أعضاء بَدَنِه السقيم، وبالتحديد من القبة الرخامية التي يصل طولها إلى 115 قدماً والمئذنة وطولها 130 قدماً، ثم نُقلت هذه العينات فوراً إلى مختبرات الهند وأمريكا لتحليلها تحليلاً كاملاً للتعرف على نوعية الملوثات التي ضربت جسم تاج محل، وحجمها، وبخاصة من ناحية الجسيمات الدقيقة. وقد أكد العلماء أن الجاني الذي سبب هذه الأعراض المرضية لهذا التراث الدولي العظيم هو تلوث الهواء، وأن المتهم هو عنصر الكربون الأسود، والكربون العضوي البني، والغبار، وهذه الملوثات تنجم أساساً عن حرق الوقود في السيارات، وفي مصانع الطابوق، إضافة إلى حرق المخلفات الصلبة والمخلفات الزراعية.   

 

وقد وصف العلماء نتائج واستنتاجات دراستهم هذه في مجلة تقنيات علوم البيئة الأمريكية في العدد الصادر في السادس من يناير من العام الجاري تحت عنوان:"تغير لون تاج محل بسبب جسيمات الكربون وترسب الغبار".

 

وهذه الحالة التي يعاني منها تاج محل الآن، تذكرني بالتراث الفني الغربي من تماثيل وصروح تذكارية وقصور خالدة، حيث إن جميع هذه التماثيل كانت قد تحللت أعضاء جسمها، أو تآكلت رويداً رويداً بسبب المطر الحمضي القاتل الذي كان ينزل على مدن أوروبا وأمريكا فيحول غاباتها الكثيفة الخضراء إلى صحاري قاحلة، وبحيراتها وأنهارها إلى مقابر جماعية مقفرة لا حياة فيها ولا روح لها.

 

فما أصاب تاج محل والمواقع الأثرية والتراثية في كل دول العالم من داء التلوث يشير إلى المردودات المتعددة والمختلفة للتلوث والتي تشمل الجانب الصحي، والاقتصادي، والاجتماعي، والتراثي، والسياحي، مما يؤكد علينا الاهتمام بقضية حماية البيئة من التلوث ومنع انتشار وانطلاق الملوثات إلى بيئتنا.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق