الثلاثاء، 4 أغسطس 2015

الكذب والجشع من ثقافة الشركات الكبرى(2)


 

الشركات العملاقة متعددة الجنسيات تقوم أساساً على الكسب السريع وجني المال الكثير والوفير، ولا عيب في ذلك، فهذا مطلوب لاستدامة عملها وعطائها ونموها، والكسب المشروع الحلال والطيب دعا إليه ديننا الحنيف وشَجَّع عليه، ولكن العيب أن يكون تحقيق هذا الهدف على حساب المبادئ الإنسانية، والقيم البشرية، والأخلاقيات العامة المشتركة، فالعيب يكون في أن هذه الشركات تسعى إلى رفع نسبة الأرباح على حساب كل شيء، مهما كان هذا الشيء، فالغاية عندهم تبرر الوسيلة.

 

فثقافة هذه الشركات هي الكذب من أجل المال، وثقافة هذه الشركات تزوير الحقائق من أجل تحقيق الثروة المادية، وثقافة هذه الشركات إخفاء المعلومات عن عامة الناس إذا كانت هذه المعلومات تؤثر على الأرباح السنوية. فجميع هذه الشركات، سواء أكانت شركات لإنتاج الطاقة وتوليد الكهرباء، أم شركات لإنتاج الأدوية والعقاقير، أم شركات التبغ والسجائر، فكلها تشترك في ثقافة واحدة، وهدف واحد لا يختلفون عليه، وكلها تصب في الجشع والأنانية في الوصول إلى الربح في أسرع وقتْ وعلى حساب كل شيء، سواء صحة وأمن وسلامة الإنسان، أو صحة البيئة وثرواتها ومواردها الطبيعية الحية وغير الحية، فهذه بالنسبة لهم قضايا ثانوية لا قيمة حقيقية لها بالنسبة لهم، ويتاجرون بها في بعض الأحيان لتغيير سمعتهم، وتلميع صورتهم أمام الرأي العام.

 

وفي المقال السابق أوردت بعض الأدوات والوسائل التي يستغلونها لتنمية ثرواتهم وخفض خسائرهم، واليوم أقدم لكم مثالاً آخر يصب في إثبات حقيقة ثقافة هذه الشركات.

 

فالعالم الآن يقف أمام مفترق طرقٍ بالنسبة لظاهرة التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض، وهناك فريقان يتنافسان حول هذه المشكلة البيئية العامة الكبيرة، فهناك المدافعون، وهم الفئة الأعظم من المجتمع الدولي الذين يؤكدون على واقعية هذه الظاهرة، ويثبتون أن لأنشطة البشر دوراً رئيساً في رفع درجة حرارة الأرض، ويَدْعون المصانع والشركات إلى خفض انبعاث الملوثات المسئولة عن التغير المناخي، وفي المقابل هناك المنكرون لهذه الظاهرة والمشككون في مساهمة شركات النفط والفحم والمصانع وشركات توليد الكهرباء ووسائل النقل في رفع درجة حرارة الأرض، وكل هذا من أجل تجنب التزام هذه الشركات إلى الصرف على وضع أجهزة ومعدات تقلل من انبعاث الملوثات إلى الهواء الجوي، وبالتالي تخفض من أرباحها السنوية. ولذلك جَنَّدت هذه الشركات "المرتزقة" من العلماء، والمفكرين، والباحثين، والإعلاميين، ورجال السياسة والقانون إلى تبني أسلوبٍ إبداعيٍ جديد، وهو الضرب على الوتر الحساس للأفراد والدول عن طريق تخويف الدول والناس وترهيبهم بأن إلزام الشركات بهذه الإجراءات يؤدي إلى إفلاسها ثم إغلاقها كلياً، وبالتالي إلى فقدان الوظائف والأعمال والبطالة المرتفعة وتشرد الناس، ثم الولوج في مرحلة الركود الاقتصادي والكساد المالي للدولة والأسر والأفراد، حتى أن بعضهم وصف هذه الحالة بــ"الانتحار الاقتصادي"، أي أن هذه الشركات نظمت حملة مسعورة وممنهجة ضد إجبارها وإلزامها على اتخاذ إجراءات لعلاج الملوثات، وأشاعوا أن مثل هذه الإجراءات يُعد تهديداً حقيقياً للاقتصاد على مستوى الدولة الواحدة ودول العالم برمتها، ويسبب كارثة مالية نحن في غنى عنها في هذه المرحلة الصعبة.

 

كما أن هذه الشركات عند الإحساس بالخطر في بروز "مَعْلومة أو حقيقة" قد تؤثر على تسويق منتجاتها وتقلل من مبيعاتها، فإنها تتعمد على إخفائها ووضعها في الأدراج المقفلة وإغلاقها بالشمع الأحمر. فعلى سبيل المثال، قامت شركة بوردو فارما(Purdue Pharma) للأدوية في عام 1996 بالتسويق لدواءٍ سحري يزيل كافة أنواع الألم تحت مسمى أوكسي كونتن(OxyContin)، وتمكنت خلال سنواتٍ قليلة من تحقيق أرباحٍ خيالية كبيرة، حتى أن الناس بدأوا يستخدمون هذا الدواء كالبندول والأسبرين الذي يباع في البرادات. ولكن ما لم يعرفه الأطباء والمرضى أن هذا الدواء كان نوعاً من "المخدرات" الذي يؤدي إلى "الإدمان"، فقد أخفت هذه الشركة هذه "المعلومة والحقيقة" عن الأطباء والناس إلى حدٍ سواء، وقدمت لهم معلومات خاطئة ومضللة مما أدى إلى إدمان المرضى عليه، وعدم القدرة على الاستغناء عنه، وبالتالي ارتفاع نسبة المبيعات إلى درجةٍ غير مسبوقة بالنسبة لمثل هذا النوع من الدواء. ولكن مع الوقت انكشف السر، وظهرت الحقيقة أمام الناس، واعترفت الشركة بكذبها وتضليلها للمرضى، فغُرمت الشركة 600 مليون دولار لتقديمها معلومات خاطئة وتعريض الناس للإدمان.

 

فهل بعد هذه الأمثلة الناصعة والواضحة وضوح الشمس نثق بهذه الشركات، أو نعتمد على المعلومات التي يوفرونها للمستهلكين والناس عامة عن منتجاتهم وبضائعهم؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق