مرضٌ عضال مُدمر للفرد والأسرة والمجتمع ومستعصي على العلاج، ظَهَر
في الكثير من دول العالم وعانى منه عشرات الآلاف من البشر، ومازالت هذه المعاناة
القاسية مستمرة منذ أكثر من خمسين عاماً، ولكن الأمر الغريب والذي نحن بصدد الوقوف
أمامه وسبر غوره هو أن هذه العِلة المزمنة والخبيثة لم نشاهدها في الولايات
المتحدة الأمريكية ولم نسمع عنها بتاتاً في هذه الدولة الكبرى، فلم تنكشف أية
حالةٍ مرضيةٍ على مواطنٍ أمريكي، فيا تُرى ما هو السبب في نزول هذا المرض في دول
العالم باستثناء أمريكا؟
السبب بكل بساطة يكمن وراء وقوف امرأة بكل شجاعة وقوة ورَبَاطة
الجأش في اتخاذ القرار الصحيح والجريء دون مُهادنة، أو تردد، أو خوف من أحد، وتحمل
المسؤولية وأمانة الوظيفة، فقد كَادتْ هذه المرأة الأمينة والشريفة أن تضحي
بوظيفتها ومستقبلها المهني من أجل الثبات على المبادئ والقيم وأخلاقيات المهنة
وعدم غلبة المصلحة الشخصية على المصلحة العامة.
فمحور هذا المرض الغريب الكارثي، وهذه القصة الحزينة والمفجعة التي
تصدت لها هذه المرأة الأمريكية لوحدها، والذي هَزَّ بعض المجتمعات دون المجتمع
الأمريكي، يدور حول استعجال الكثير من الدول في إدخال نوعٍ من الدواء إلى الأسواق،
والسماح للإنسان باستخدامه مباشرة دون تحقيقٍ مستفيض، وبدون إجراء التجارب الدقيقة
والشاملة حول آثاره الجانبية، فقد تم تسويق هذا العقار المعروف علمياً بالثالدوميد
بأنه "الدواء السحري" الذي يعالج فوراً آلام المرأة الحامل عند
استيقاظها من النوم في الصباح الباكر، ويُبعد عنها شبح المعاناة ومتاعب الألم،
وبالفعل انتشر تعاطيه في معظم دول العالم والملايين من النساء الحوامل استخدمن هذا
الدواء منذ عام 1957، حتى إنه اُعتبر كالمسكنات العادية التي تباع دون وصفةٍ طبية وفي
البرادات والمحلات العامة كالبندول والأسبرين.
وعندما أراد هذا
الدواء أن ينتقل إلى الطرف الثاني من الكرة الأرضية، قامت الشركة المنتجة بتقديم
طلبٍ لتسويق الدواء إلى إدارة الدواء والغذاء في الولايات المتحدة الأمريكية تحت
اسم تجاري هو كيفادون(Kevadon)، وبالتحديد كان هذا الطلب في سبتمبر 1960، فقد كان الطلب
يعتبر "روتينياً" عادياً لا غبار عليه، فالعقار تم تسويقه واستخدامه في
الكثير من دول العالم، وأصبح يُباع بكثرة كمُسكن ومهدئ في هذه الدول، ولحسن حظ
أمريكا أن هذا الطلب تحول إلى هذه المرأة المخلصة التي كانت تعمل في هذه الإدارة
المختصة بالترخيص للأدوية الجديدة، فلم تأخذ هذا الطلب بعجالة فتضع بصمتها عليه
بالموافقة الفورية، كما فعلت الدول الأخرى، وإنما أَبَت إعطاء الترخيص إلا بعد
التدقيق في أمر الدواء وتفاصيله وأعراضه الجانبية، فطلبت من الجهة المنتجة معلومات
إضافية أكثر دقة ووضوح، ثم بعد تقديم المعلومات، قامت بطلب توضيحات أخرى ليطمئن
قلبها وتقتنع بعدم وجود أضرارٍ للدواء، ولكن مصنعي الدواء لم يعجبهم مثل هذه
التصرفات وتكرار طلب الأسئلة والاستفسارات، فقاموا بتهديدها ورفع شكوى إلى الجهات
العليا ضدها لتأخير الرخصة، كما جندوا بعض المرتزقة لتلميع صورة وفاعلية هذا
الدواء، ولكنها بالرغم من ذلك رفضت الرضوخ للضغوط الكبيرة التي مورست عليها، وأصرت
على موقفها وثَبَتَت على قناعاتها، ولحس الحظ أنه مع تأخير الموافقة على الطلب
ومرور الوقت في استخدام الدواء، بدأت تظهر في أوروبا واستراليا وكندا وبعض دول
الشرق الأوسط حقائق مخيفة عن هذا الدواء، وانكشفت مظاهر مؤلمة ومفجعة شاهدها الناس
في كل أنحاء العالم، ومازالت هذه المشاهد نراها أمامنا حية جلية لتحكي قصة هذه المأساة
البشرية، والتي تمثلت في ولادة عشرات الآلاف من الأطفال المشوهين والمعوقين
خَلْقياً والذين فقدوا
بعض أعضاء الجسم، فعاشوا سنواتٍ طويلة، وبعضهم مازال حياً حتى يومنا هذا بدون يدٍ،
أو رجلٍ، أو أطرافٍ أخرى، فمنهم من لا يستطيع المشي، ومنهم من يستطيع الأكل بنفسه،
ومنهم من لا يستطيع القيام بأية حركة وكأنه أصيب بشللٍ تام أَوْقف كل أعضاء جسمه
عن الحركة.
ولذلك ونتيجة لإخلاص هذه المرأة في عملها، وتفانيها في أداء
واجباتها ومهامها الوظيفية، تم رفض الطلب وإنقاذ الولايات المتحدة الأمريكية من شر
تداعيات هذا الكَرْب الذي نزل على قرابة 46 دولة، فمنعت بهذا العمل البسيط كارثة ولادة ملايين الأطفال المعوقين
والمشوهين في الولايات المتحدة الأمريكية، وجنبت بلادها والشعب الأمريكي ويلات هذه
المعاناة الأزلية الخالدة،
ونالت بكل جدارة واستحقاق بسبب مواقفها الشجاعة والبطولية هذه أعلى وسام في الخدمة المدنية الاتحادية لأمريكا في أكتوبر عام 1962، واستلمت هذا
الشرف العظيم من الرئيس الأمريكي الأسبق جون كنيدي، وعلاوة على هذا التكريم فقد
وُضع اسمها في عام 2000 ضمن القائمة الوطنية لمشاهير النساء في أمريكا.
وهذه المرأة الشامخة في عطائها، والمخلصة لوطنها، والموالية
لبلدها، والمتفانية في حبها، واسمها الدكتورة فرانسسكيلسي(Frances Kelsey)،
وَدَّعَتْ الحياة الدنيا في السابع من أغسطس من العام الجاري عن عمرٍ ناهز 101، فتركت وراءها
سيرة عطرة وزكية، وسجلاً حافلاً مضيئاً ومشرقاً، وبصمة حُفرت ونقشت في صفحات
التاريخ الأمريكي، بل وفي تاريخ البشرية جمعاء، فخلدت
ذكراها وانجازها المهني على مَرِّ الأزمان والعصور.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق