الأحد، 30 أغسطس 2015

مرضٌ يضرب نيويورك


الآلاف من المواطنين الأمريكيين، معظمهم من الجنود السابقين، حزموا أمتعتهم، وحملوا حقائبهم وشدوا الرحال، وودعوا أهاليهم متجهين إلى مؤتمرٍ روتيني يُعقد سنوياً في إحدى الولايات في الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يعلم هؤلاء الجنود الأمريكيين أن هذه المرة سيكون الحال مختلفاً عن السنوات السابقة، وأن وداعهم لأقربائهم وذويهم سيكون الوداع الأخير، وستكون آخر مرة سيرون فيها هؤلاء الأحباب والأقارب من أسرهم.

 

فقد شارك زهاء 4000 أمريكي من جميع ولايات أمريكا في الاجتماع السنوي الـ 58 للجَحْفَل، أو الفَيْلَق الأمريكي"(American Legion)، والذي عُقد في الفترة من 21 إلى 24 يوليو 1976 في فندق خمسة نجوم اسمه بيلفيو ستراتفورد(Bellevue-Stratford) الواقع في مدينة فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا، وقد تم اختيار المكان والزمان ليتوافق ويتزامن مع احتفالات أمريكا بمرور مائتي عام على توقيع إعلان استقلال أمريكا، وولادة الولايات المتحدة الأمريكية في فيلادلفيا عام 1776.  

 

ولكن بعد ختام المؤتمر ومغادرة الوفود إلى مساكنهم، وقع أمر غريب لم يكن في الحسبان ولم يخطر على بال أحد، وفاجأ الجميع وباغتهم وأخذهم على حين غرة، فقد بدأ بعض المشاركين في السقوط مرضى وأصابتهم وكعة شديدة، وظهرت عليهم أعراض مرضية غريبة لأول مرة، وتمثلت أولاً في الحرارة المرتفعة، وآلام في الصدر، والشعور بالتعب وآلام في العضلات، وفقدان الشهية، ثم بعد هذه الأعراض البسيطة، بدأ المرضي يعانون من ضيق التنفس الحاد، فسقط منهم 34 صرعى ولقوا حتفهم ونقلوا إلى مثواهم الأخير، والبعض الآخر وعددهم 221 تمكن الأطباء من علاجهم وتقديم الدواء المناسب لهم.

 

فهذه الحالة المرضية الجديدة والمفزعة، حيَّرت علماء أمريكا وأطباؤها وألقت الرعب والهلع في قلوب المشاركين في الاجتماع من جهة وفي نفوس باقي المواطنين من جهةٍ أخرى، ولم يفك الأطباء خيوط لغز هذا المرض إلى بعد مضي أكثر من عامٍ على سقوط الضحايا البشرية، حيث تأكد لهم أن هناك نوعاً جديداً من البكتيريا لم يكتشفه الإنسان من قبل ويعيش في المياه الدافئة والرطبة، وينتقل إلى الإنسان عن طريق استنشاق رذاذ وبخار الماء، وأن هذا النوع الجديد هو المتهم بجريمة القتل ويقف وراء سقوط الناس صرعى، وأُطلق عليه بكتيريا اللجينولا(Legionella) أو البكتيريا الفَيْلَقِيَّة، نسبة إلى اجتماع الفَيْلق(اللِيجن) الأمريكي في فيلادلفيا، كما سُمي المرض أيضاً الليجينولوسيس(legionellosis)، وهو نوع من أنواع النيمونيا، أو الإلتهاب الرئوي الحاد.

 

والغريب أن مشهد مصرع الأمريكيين في يوليو 1976، يتكرر الآن وفي الشهر نفسه وكأنما التاريخ يعيد نفسه ولا يريد الإنسان أن يستفيد من زلاته وهفواته، ولكن هذا المشهد الجديد وقع في العاشر من يوليو عام 2015، أي بعد مرور 39 عاماً على المشهد الكارثي الأول، فقد سقط خلال أقل من شهر منذ اكتشاف هذه العلة القاتلة 12 مواطناً أمريكياً من مدينة نيويورك ضحية لهذا المرض، كما مرض أكثر من 120 منهم وأدخلوا المستشفيات في حالات الطوارئ القصوى، ولم يُعرف مصدر المرض ومنشأ البكتيريا ومكان تكاثرها إلى بعد مرور ثلاثين يوماً، حيث تم اكتشافها في برج التبريد الخاص بأجهزة التكييف الموجود فوق سطح فندق أوبرا هواس(Opera House) في منطقة البرونكس(Bronx) المعروفة، وبعد هذا الاكتشاف على الفور اُرسلتْ فرق الطوارئ الخاصة لتنظيف وتعقيم البرج كلياً من هذا التلوث الحيوي والقضاء على هذه البكتيريا المميتة، إضافة إلى تعقيم كل المياه الموجودة في الفندق.

 

وربما مثل هذه الحوادث التي يذهب ضحيتها البشر من موت سريعٍ ومفاجئ، ومرضٍ حادٍ وشديد، تُذكرنا بأن التلوث مهما كان نوعه وحجمه، فإنه يضرب ضربة واحدة قاسية وقاصمة للظهر، ومن حيث لا ندري ولا نتوقع، وينزل علينا جميعاً فجأة من حيث لا نحتسب على الفقير والغني والدول المتطورة والنامية والفقيرة على حدٍ سواء، مما يؤكد علينا ضرورة أخذ كافة أشكال وأنواع الحِيطة والحذر، والتثبت من منع تضخم تركيز الملوثات الكيميائية والحيوية والفيزيائية وارتفاع مستواها في أية بيئةٍ كانت، صغيرة كانت أم كبيرة، سواء أكانت بيئة الماء، أو الهواء، أو التربة، أو المنزل، أو في سطح البحار وأعماق المياه الجوفية.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق