السبت، 11 يناير 2020

السجائر الإلكترونية ورقة سياسية في الانتخابات الأمريكية


سمعتُ الرئيس ترمب في الأول من يناير من العام الجاري في حوار إعلامي في ولاية فلوريدا وهو يُعيد ويُكرر العبارات التالية:" "سنَحْمي أطفالنا، وسنحمى أُسرنا، وسنحمى في الوقت نفسه صناعاتنا، فلدينا صناعة كبيرة معتمدة على تدخين السجائر الإلكترونية ونحن نريد حماية هذه الصناعة".

فمن الواضح من هذا التصريح بأن ترمب قد وضع لنفسه سياسة توفيقية وسطية بالنسبة لتقنين استخدام وإنتاج وبيع وتسويق السجائر الإلكترونية في الولايات المتحدة الأمريكية، فيُريد بهذه السياسة أن يمسك العصا من النصف، فيرضي الجميع ولا يغضب أحداً له علاقة بهذا النوع الجديد من السجائر، سواء أكان من جانب المستهلكين الذين يُدخنون هذه السجائر، أو من جهة صناعتها وإنتاجها، أو من جهة الشركات والمحلات الصغيرة التي تقوم بتسويق وبيع هذه السجائر، أو أخيراً من جانب الجمعيات والكتل المهتمة بصحة الإنسان والبيئة، والمعنية بالأضرار والانعكاسات المهددة لسلامة البيئة وصحة الأفراد والمجتمع الأمريكي عامة.

فقد تغيرت سياسة ومواقف الرئيس الأمريكي حول هذا الوباء المستشري في المجتمع الأمريكي، وبخاصة بين فئة الأطفال والشباب. ففي 11 سبتمبر 2019 صرح ترمب بتصريحات شديدة اللهجة ضد السجائر الإلكترونية، وقال: "لا نُريد أطفالنا أن يتأثروا إلى هذه الدرجة"، وأضاف قائلاً: "لا نستطيع أن نسمح للناس بأن يصابوا بالأمراض"، وتعهد أمام الشعب الأمريكي بأنه سيمنع جميع النكهات والمذاقات الموجودة في السجائر الإلكترونية، والتزم أمام الملأ بأنه سينفذ وسيفي بتعهداته قريباً جداً. وقد كانت تصريحاته مستندة فقط على الأدلة الصحية الدامغة التي انكشفت مؤخراً وهددت صحة المجتمع الأمريكي، أي أن قراره في ذلك الوقت كان خالصاً لوجه حماية صحة المواطن الأمريكي.

وقد تمثلت الأبعاد الصحية السلبية الخطيرة المتعلقة بالسجائر الإلكترونية في قضيتين رئيستين، الأولى وهي ربما الأبرز والأشد وطأة وتنكيلاً بالشعب الأمريكي وهي المرض الرئوي الغامض الذي أُطلق عليه(E-VALI or VALI) وضرب فئة الشباب خاصة بسبب تدخينهم للسجائر الإلكترونية، فمنهم من قضى نحبه ونُقلوا إلى مثواهم الأخير وبلغ عددهم حتى كتابة هذه السطور إلى 55 حالة، ومنهم من هو راقد في قسم الطوارئ ينتظر، وبلغ عددهم 2561. وأما الثانية فهي إدمان الشعب الأمريكي على تدخين السجائر الإلكترونية، وبالتحديد بين الأطفال وطلاب المدارس، حسب التحقيق المنشور في التايم في 19 سبتمبر من العام المنصرم، حيث تمت الإشارة إليها بصورةٍ كبيرة على صفحة الغلاف تحت عنوان: "السجائر الإلكترونية تجذب الأطفال وتُشعل أزمة صحة عامة"، كما جاء في العناوين الرئيسة لهذا التحقيق المعمق والطويل: "الإدمان الجديد للشعب الأمريكي". فقد ذكر التحقيق العديد من الإحصائيات التي تؤكد استفحال هذه الظاهرة وانتشارها في المجتمع الأمريكي، وبالتحديد بين فئة الشباب، حيث ورد في تقرير "الاستفتاء القومي للشباب حول التبغ" لعام 2019 أن هناك نحو 5 ملايين طالب يدخنون السجائر الإلكترونية، وأن هذا العدد في ارتفاع مستمر، فنسبة المدخنين من طلاب المدارس في عام 2017 بلغت 11.75%، وارتفعت في عام 2018 إلى 20.8%، والآن وصلت النسبة ذروتها إلى 27.5%.

ولكن سُرعان ما تبخرت وعود ترمب وذهبت أدراج الرياح، وذلك عندما دخل الجانب الاقتصادي والسياسي على الخط مباشرة وغطى على الجانب الصحي المتعلق بالسجائر الإلكترونية. فقد شمرت جماعات الضغط واللوبي الخاص بالتبغ والسجائر عامة والسجائر الإلكترونية خاصة عن يديها وخصصت الملايين من الدولارات لحماية مصالحها الاقتصادية والدفاع عن سلامة تدخين السجائر الإلكترونية، كما ألقت الرعب في قلب ترمب بأنه سيخسر أصوات جميع المدخنين لهذه السجائر وكل المنتفعين منها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أثناء انتخابات الرئاسة في نوفمبر 2020. فعلى سبيل المثال، نشرت جمعية تقنيات التدخين الإلكتروني تقريراً في نوفمبر 2019 حذَّرت فيه البيت الأبيض بأن المنع الكلي للسجائر سيهدد نحو 150 ألف وظيفة وإغلاق آلاف المحلات التي تبيع السجائر الإلكترونية والمنتشرة في جميع أرجاء الولايات الأمريكية، إضافة إلى خسائر مالية قدرها نحو 8.4 بليون دولار، ومن أجل نشر هذه المعلومات على المجتمع الأمريكي والضغط على ترمب فقد أنفقت هذه الجمعية 240 ألف دولار في عام 1918، وفي عام 2019 صرفت أكثر من 336 ألف على الدعاية والإعلانات، علماً بأن مجموع ما أُنفق من شركات التبغ والسجائر الإلكترونية في عام 2018 بلغ نحو 23.5 مليون دولار، وفي الربع الأول من عام 2019 تم صرف 20 مليون دولار.

فكل هذه الجهود الإعلامية والضغوط السياسية أثمرت في نهاية المطاف في إلزام ترمب على إصدار تشريعٍ يحاول فيه إرضاء جميع الأطراف وتجنب خسارة الأصوات الانتخابية، أي أن قراره هذه المرة لم يكن خالصاً لوجه حماية صحة الناس، وإنما شابه الجانب السياسي والشخصي آخذاً في الاعتبار مصالح شركات التبغ عامة وشركات السجائر الإلكترونية خاصة. فقد صدر القرار النهائي في الثاني من يناير بمنع إنتاج وبيع السجائر الإلكترونية الموجودة على هيئة الخراطيش أو "الكارتردج"(cartridges)، أو ما يُعرف بالنظام المغلق والتي تحتوي نكهات الفواكه والنعناع والحلويات، واستثنى القرار نكهة "المنثول" أو زيت النعناع والنكهات والمذاقات المخلوطة بالتبغ أو منتجات التبغ، كما استثنى القانون السجائر الإلكترونية التي تُباع على هيئة النظام أو الخزان المفتوح الذي يمكن ملؤه حسب رغبة وميول المدخن من ما لذَّ وطَابْ من نكهات ومذاقات في محلات بيع منتجات السجائر الإلكترونية.

فبهذا التشريع الجديد ناقض فيه ترمب نفسه، وأخلف وعده الذي قطعه على نفسه للشعب الأمريكي بحماية صحة المواطنين وبالتحديد فلذات أكباد أمريكا من الشباب والأطفال، ففضَّل الحصول على أصوات المدخنين وكل من يستفيد من السماح للتدخين من أجل البقاء في البيت الأبيض، وهذه السياسة التي تُعطي الأولوية للأصوات والنفع الشخصي والحزبي على حساب الصحة العامة أغضبت الجمعيات المهنية المختصة والجماعات التي تحارب التدخين بشكلٍ عام. فعلى سبيل المثال، قال رئيس الجمعية الأمريكية للرئة: "ترمب سيُضحي بصحة أطفال الأمة، ومن الأسف مشاهدة نتيجة جماعات ضغط صناعة السجائر الإلكترونية ودورها في إضعاف حماية الصحة العامة". كما قال رئيس جمعية السرطان الأمريكية: "بدلاً من أن نمضي للأمام بمقترح فاعل يوقف وباء تدخين الشباب للسجائر الإلكترونية، نجد أننا مرة ثانية نعاني من سياسة جوفاء تسمح لصناعة التبغ من الاستمرار في جذب الأطفال نحو الإدمان على النيكوتين طوال سنوات حياتهم".

والأيام القادمة ستكشف لنا هل نجح ترمب في هذه السياسة؟ وهل استخدم ورقة السجائر الإلكترونية بشكلٍ صحيح لمصلحته الانتخابية الضيقة؟ 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق