الجمعة، 3 يناير 2020

ماذا سيبقى من البحر بعد تنفيذ خطة الدفان؟


خطة حكومية طموحة، ولكنها مقلقة كثيراً بالنسبة لي، بل وأصابتني بمسٍ من الخوف واليأس في الوقت نفسه، وتتمثل هذه الخطة في تصريحات وزير الأشغال وشؤون البلديات والتخطيط العمراني في 30 ديسمبر من العام الجاري عندما كشف بأن هناك خطة عَمَلية للدفان سواء للعقارات الحكومية أو الخاصة حسب المشاريع المعتمدة في المخطط الهيكلي الاستراتيجي للبحرين 2030، وهذه الخطة تتضمن 11 مشروعاً استراتيجياً حكومياً تشمل مشاريع إسكان وطرق وخدمات أخرى، وتحتاج إلى قرابة 377,714 مليون متر مكعب من الرمال، كما ورد في التصريح أن عدد مشاريع الدفان البحري التي تم الترخيص لها 126 رخصة للقطاع الخاص فقط.

فهذه التصريحات جعلتني أُفكر ملياً وأتأمل كثيراً في مدلولات هذه التصريحات على البيئة وحياة الناس، فأطرح على الجميع التساؤلات التالية، لعلي أحصل على ما يشفي غليلي مما أعاني منه الآن من الهم والقلق على مصير بيئتنا البحرية، وثروتنا السمكية، وأَمننا الغذائي:
أولاً: هذه الخطة الواسعة والكبيرة التي ستَلتهم جزءاً كبيراً من بيئتنا البحرية المعطاة عندما ينتهي تنفيذها على أرض الواقع، كم ستُبقى لنا من هذه البيئة البحرية؟
ثانياً: ماذا سيكون التأثير الإجمالي لهذه المشاريع الخاصة باستخراج الرمل ودفن البحر على البيئة البحرية عامة، وعلى الثروة السمكية والكائنات البحرية الفطرية الأخرى بصفةٍ خاصة نتيجة لأعمال حفر البحر باستخدام آليات الحفر العملاقة التي لا تُبقي ولا تذر لاستخراج الرمال من جهة، ودفن المناطق الساحلية الحيوية المنتجة من جهة أخرى؟
ثالثاً: كم نوعاً من الحياة الفطرية النباتية والحيوانية سنخسر؟ وكم نوعاً سينقرض كلياً من بيئتنا البحرية بعد إتمام خطة حفر ودفان البحر؟
رابعاً: ما هي الخسائر الاقتصادية الناجمة عن فقدان البيئة الساحلية وفقدان الثروة السمكية والكائنات الفطرية النباتية والحيوانية غير التجارية؟
خامساً: ما هي الخسائر الاقتصادية التي ستنصب على العاملين في مجال الصيد البحري الذي ربما هو مصدر رزقهم الوحيد؟

فمن خلال متابعاتي لأنماط عمليات حفر البحر ودفن السواحل في البحرين، ومن خلال الدراسات والأبحاث التي قمتُ بها منذ أكثر من 35 عاماً، ومن خلال اطلاعي طوال هذه السنوات على الدراسات التي أُجريت في مختلف دول العالم حول هذه القضية، أستطيع وبكل ثقة وموضوعية أن أُقدم لكم المردودات السلبية التي تُسببها هذه العمليات في الميدان، والتهديدات الخطيرة التي تمثلها للثروة البحرية الحية وغير الحية، النباتية والحيوانية، وهي كما  يلي:
أولاً:
هذه العمليات صغيرة كانت أم كبيرة تؤثر على نوعية مياه البحر من حيث زيادة الرواسب الترابية الصغيرة الحجم وارتفاع مستوى عكارة عمود الماء بشكلٍ عام، مما ينجم عنها تدهور في مستوى الرؤية وتغير في الأكسجين الذائب في الماء، إضافة إلى التدمير المنهجي وعلى نطاق واسع لمواقع الحفر من جهة، وللبيئات الساحلية المنتجة التي يتم دفنها من جهةٍ أخرى، فهذه العمليات أكلت من جسم البحر شبراً بعد شبر، وهدمت ودمرت كل كائنٍ حي موجود في مناطق الحفر والدفن.
ثانياً: عمليات الدفان العشوائية كوَّنت مستنقعات مائية ضحلة وصغيرة وضيقة لا تتجدد مياهها، ولا تتحرك تياراتها، فلا يمكن أن يعيش فيها أي كائنٍ حي، مما أدى إلى تدهور نوعية المياه فيها ونفوق الأسماك والكائنات الحية الأخرى التي تعيش تحت ظلها، وبخاصة بالنسبة للأسماك الصغيرة الشديدة الحساسية لأي تغيير فجائي يقع في البحر، وبالتحديد في أشهر الصيف عندما ترتفع درجة حرارة الجو وماء البحر.
ثالثاً: عمليات الحفر والدفان أدت إلى انخفاضٍ شديد في أعداد وأنواع الأسماك التي هي الغذاء الرئيس للمواطن البحريني وأساس تحقيق الأمن الغذائي المستدام، فاختفتْ أنواع عدة من الأسماك التجارية المشهورة في البحرين وانخفضت أعداد أنواعٍ أخرى.
رابعاً: ارتفاع ملوحة المياه الجوفية الساحلية بسبب عمليات الحفر، وبالتحديد في المناطق البحرية التي كانت تقع تحتها طبقات المياه الجوفية، فأدت إلى كسر الجدار الفاصل بينهما وتسرب مياه البحر إلى المياه الجوفية.
خامساً: عمليات الحفر لاستخراج الرمل أدت إلى استنزاف هذه الثروة البحرية القومية إلى درجة أنها انتهت ونضبت كلياً في بعض المناطق البحرية، فقد تناولتْ وسائل الإعلام المحلية خبراً في السابع من يناير 2019 حول تأجيل مجلس الشورى لمناقشة قانون بتعديل قانون تنظيم عملية استخراج الرمال البحرية وبيعها، حيث أقرتْ الحكومة ولأول مرة، واعترفت بشكلٍ واضح لا لبس فيه بأن المنطقة البحرية الشرقية من جزيرة البحرين والتي تم اعتمادها لسنوات لاستخراج الرمال أصبحت الآن شبه معدومة، أي لا توجد بها رمال كلياً تصلح لعمليات البناء والإنشاء، وأن الحكومة تدرس إيجاد البديل لهذه المنطقة التي تم القضاء عليها.
سادساً: من غير الإنصاف والعدل والموضوعية عند إجراء دراسة جدوى لأي مشروع يتطلب الحفر لاستخراج الرمل البحري، أو دفن منطقة ساحلية أن نقوم فقط بحساب الجانب الاقتصادي الإيجابي لهاتين العمليتين من حيث قيمة الأرض بعد عملية الدفان والمشاريع التي تقام عليها، فلِكي نتأكد من الفوائد الإجمالية للمشروع من الناحية الاقتصادية ومن الجدوى الحقيقي للمشروع، علينا في الوقت نفسه إجراء دراسة للخسائر المالية التي نتكبدها من تدمير البيئة البحرية الساحلية، إضافة إلى الخسائر الاقتصادية التي نتحملها بسبب القضاء كلياً على الثروة السمكية في منطقة الدفن، أو القضاء على كل الكائنات الحية النباتية والحيوانية التي تعيش في المناطق الساحلية وتعتمد عليها استدامة عطاء وإنتاجية الثروة السمكية التجارية بشكلٍ مباشر، وعند القيام بذلك نستطيع أن نتأكد ما إذا كان المشروع مجدياً اقتصادياً أم لا.
سابعاً: هذه المشاريع ضعَّفتْ كثيراً من قُدرتنا على استدامة تحقيق الأمن الغذائي الفطري الذاتي للبحرين، فالمصدر الوحيد للبروتين المحلي هو الثروة السمكية التي هدَّدنا استدامة عطائها بأيدينا، ولهذه الخسارة جانب سياسي وأمني واقتصادي يجب أن لا نتهاون فيه، أو أن نتجاهل انعكاساته المستقبلية.

فكل هذه المردودات السلبية قد وقعتْ بالفعل وشهدها من قبل، ويشهدها الآن كل مواطن خلال أكثر من خمسين عاماً من عمليات الحفر والدفان، حيث فقدنا الكثير بيئياً واجتماعياً واقتصادياً وأمنياً نتيجة لذلك، واليوم نقف مرة ثانية أمام خطة أخرى واسعة النطاق تتجه كلياً نحو ارتكاب الأخطاء نفسها التي ارتكبناها خلال العقود الماضية وهي عمليات الحفر والدفان، وكأننا لم نتعلم شيئاً ولم نستفيد من هفواتنا وزلاتنا!   

    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق