الجمعة، 17 يناير 2020

البدانة وباء العصر


من أجل المتابعة الدائمة للشأن والهم البيئي العام، أطلعُ يومياً على الأبحاث والتقارير البيئية المنشورة في المجلات والدوريات البيئية العلمية الموثقة، إضافة إلى مراقبة الأخبار البيئية الدولية والمحلية عن طريق قراءة الصحف الصادرة في بعض الدول في المشرق والمغرب.

وقد لفتَ انتباهي في السنوات القليلة الماضية ارتفاع وتيرة الأبحاث المتعلقة بالبدانة والسمنة والوزن المفرط، وبالتحديد ربط الإصابة بهذا المرض العصري وهذه الظاهرة المتفشية في الكثير من دول العالم بتعرض الإنسان للملوثات بشكلٍ عام وتلوث الهواء بصفةٍ خاصة، حيث زادت مؤخراً الدراسات التي تُؤشر إلى وجود علاقة مباشرة بين الإصابة بداء البدانة وزيادة الوزن والعيش في بيئة ملوثة مشبعة بشتى أنواع الملوثات، أي أنه كلما تعرض الإنسان للتلوث لسنواتٍ طويلة، زادت عنده مخاطر الوقوع في شباك السمنة.

فمن المعروف عند المختصين وغير المختصين منذ عقود من الزمن أن هناك عوامل قديمة وتقليدية تُسبب في زيادة الوزن والإصابة بالبدانة، فهذه الأسباب ارتبطت بعقول الناس وتفكيرهم، منها الحياة الرغيدة والمرفهة التي يعيشها بعض الناس والمتمثلة في الإسراف في الأكل والشرب وعدم التنوع في الوجبات الغذائية واستهلاك مواد غذائية غير صحية مليئة بالدهون والمواد الحافظة والنكهات المضرة والسكريات المرتفعة، ومنها نمط حياة الإنسان من الكسل والخمول والجلوس أمام التلفاز أو ألعاب الفيديو أو الهاتف النقال وعدم ممارسة الرياضة أو الأنشطة العضلية البدنية، إضافة إلى العوامل النفسية والوراثية التي ربما في بعض الأحيان تصيب الإنسان بالبدانة بدون أن يكون له فيها حولاً ولا قوة.

ولكن اليوم أُضيف عاملاً جديداً آخر فوق العوامل التقليدية المعروفة، ومصدراً حديثاً يرفع من مخاطر الإصابة بالبدانة، وهو كما ذكرتُ التلوث البيئي، والتعرض للملوثات في موقع السكن أو العمل بشكلٍ مستمر طوال اليوم والليلة.    

فقد أفادتْ دراسة منشورة في مجلة شؤون صحة البيئة في 4 نوفمبر 2018 إلى أن التعرض لتلوث الهواء يزيد من وزن الإنسان ويسبب البدانة، وبخاصة عند تعرض الأطفال لسنٍ مبكرة لتلوث الهواء من السيارات، وبالتحديد أكاسيد النيتروجين. فقد قامت هذه الدراسة الميدانية بمراقبة ومتابعة الحالة الصحية لـ 2318 طفلاً يعيشون في ولاية كاليفورنيا الأمريكية بالنسبة لزيادة وزنهم بشكلٍ سنوي وعلاقة زيادة الوزن بنوعية الهواء التي يتعرضون لها، وبالتحديد من عوادم السيارات، حيث توصلت الدراسة إلى استنتاجٍ هام هو أن تعرض الطفل للهواء الملوث يسهم في زيادة مؤشر كتلة الجسم، أو باختصار بِي إِم أي(body mass index)، وهذا المؤشر يستخدم علمياً لقياس الوزن الطبيعي الصحي مقارنة بالوزن الزائد غير الطبيعي. كما نُشرت دراسة أخرى في المجلة نفسها في ديسمبر من العام المنصرم تحت عنوان: "التعرض للجسيمات الدقيقة في مدينة المكسيك وعلاقته بالبدانة"، حيث أفادت بأن التعرض للجسيمات الدقيقة قد يسهم في رفع نسبة البدانة بين الشباب.

وعلاوة على دور تلوث الهواء في انتشار وتفاقم وباء البدانة، فهناك ملوثات بعينها لها علاقة بالوزن الزائد عند الأفراد الذين يتعرضون لها. فعلى سبيل المثال، هناك مركب شائع الاستخدام هو بسفينيل أ(Bisphenol A) ويدخل في صناعة الكثير من المواد الاستهلاكية البلاستيكية، وأشارت بعض الدراسات بأن هذا المركب يتراكم في دهون جسم الإنسان ويعرضه مع الوقت لخطر الوزن الزائد والسمنة. كذلك هناك مركبات القصدير العضوية المستخدمة في طلاء القوارب والأخشاب والمنتجات البلاستيكية، حيث أفاد بعض العلماء عن العلاقة بين التعرض لهذه المركبات والسقوط في وباء البدانة.

وخطورة البدانة ليست في المظهر غير الجميل وغير الأنيق فحسب، وإنما في الوقوع في شباك أمراض مستعصية، وعلى رأس القائمة مرض السكري من النوع الثاني، وأمراض القلب، والسرطان. فقد أكدت دراسة منشورة في 5 فبراير 2019 في مجلة لانست الصحة العامة(Lancet Public Health) بأن أمراض السرطان المرتبطة بالبدانة تصل إلى 13 نوعاً منها الكلية، والمثانة، والثدي، والقولون، والبنكرياس وهي في ارتفاع مُطرد بين شباب وأطفال الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتحديد في الفترة من 1995 إلى 2015 وممن تقل أعمارهم عن 50 عاماً.

فمن الواضح إذن أن عوامل الإصابة بالبدانة قد تعقدت وتعددت وتنوعت، وأسباب وقوعها قد تزايدت وتشابكت بعضها ببعض حتى أنها انتشرت واستفحلت وبلغت في الكثير من دول العالم مرحلة الوباء الذي لا يمكن تجاهله وغض الطرف عنه. فتُفيد تقارير منظمة الصحة العالمية بأن أعداد المصابين بالسمنة وزيادة الوزن قد تضاعفت خلال الأربع عقود الماضية على المستوى الدولي، وفي الدول الغنية هناك الآن نحو بليونين من البشر يعانون من الوزن الزائد. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، تُشير آخر الإحصاءات بأن قرابة 36% من الشباب قد سقطوا ضحية الوزن الزائد، أي أن هناك قرابة 93 مليون بالغ ونحو 14 مليون طفل يعانون من الوزن المفرط حسب إحصاءات مراكز منع والتحكم في المرض والدراسة المنشورة في 27 أغسطس 2019 في مجلة جمعية الطب الأمريكية، في حين أن 26% من سكان بريطانيا تم تصنيفهم بأنهم بدناء.

ولذلك إذا أردنا فعلاً أن نُخفف من حدة هذا الوباء الجديد على مجتمعاتنا وشبابنا وأطفالنا فعلينا أن نتبع سياسة الوقاية المتكاملة والشاملة من جميع العوامل المسببة لهذا المرض، سواء أكانت عوامل تقليدية معروفة لدى الجميع، أو عوامل انكشفتْ علينا حديثاً كالتعرض للملوثات في الماء أو الهواء أو التربة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق