الأربعاء، 15 يناير 2020

قصة تَواتَرتْ روايتُها منذ عقدين


كنتُ أعتقد دائماً من خلال خبرتي مع مصادر التلوث بأن حرق البخور والعود في البيئات الداخلية المغلقة كالمنازل والمكاتب والصالات له سلبيات وأضرار تنعكس على صحة الإنسان بسبب الملوثات والأدخنة الكثيفة التي تنبعث منهما أثناء الحرق، ولكن لكي أكون علمياً منهجياً في اعتقادي، وأُحول هذا الاعتقاد إلى يقين ودليل علمي موثوق وحاسم، كان لا بد لي من إجراء التجارب العلمية المخبرية على البخور والعود وأَتعرف باستخدام الأجهزة والمعدات الخاصة بمثل هذه الحالات على هذه الملوثات التي تنبعث عنهما، فأُحدد بذلك وبدقة هويتها ونوعيتها وحجمها.

ونظراً لعدم وجود هذه الأجهزة في البلاد، اضطررتُ إلى شدَّ الرحال إلى مختبرٍ متخصص في بريطانيا يقوم بإجراء الأبحاث والدراسات على مختلف أنواع مصادر التلوث في البيئات الداخلية، وبالتحديد تلوث الهواء في المنازل.

وقد أجريتُ هناك التجارب على البخور فقط، حيث قمتُ بحرقه باستخدام الكهرباء بدلاً من الفحم، وجمعتُ الملوثات التي تنبعث عند حرق البخور ونقلتها إلى جهازٍ خاص يقيس نوعية وحجم الملوثات العضوية التي تنطلق أثناء عملية الحرق. وكانت النتيجة بعد التحليل المخبري متطابقة لاعتقادي السابق حول مخاطر حرق البخور، حيث اكتشفت أكثر من 50 ملوثاً عضوياً مختلفاً، إضافة إلى المركبات غير العضوية، والدخان أو ما نُطلق عليه بالجسيمات الدقيقة التي تنطلق عند حرق البخور. ومن بين هذه المركبات العضوية، البنزين المعروف بأنه يوقع الإنسان في شر مرض سرطان الدم، والطولوين الذي تصنفه وكالة حماية البيئة الأمريكية من ضمن المركبات الخطرة والسامة. كذلك ينطلق أثناء حرق البخور مركب مسرطن هو الفورمالدهيد، إضافة إلى الأستالدهيد وثنائي إيثيل الباثاليت، ومركبات كثيرة أخرى تهدد حياة الإنسان بالخطر.

وبعد أن انتهيتُ من بحثي حول الملوثات التي تنبعث من حرق البخور، نشرتُ النتائج في مجلة علمية بريطانية متخصصة في البيئات الداخلية هي "الهواء في البيئات الداخلية"، ثم نشرتُ مقالاً في عمودي الأسبوعي في أخبار الخليج في صفحة بيئتنا حول هذه القضية في نهاية التسعينيات من القرن المنصرم، وحذرتُ من الإسراف في استخدام، أو استنشاق دخان البخور والعود.

وبعد نَشرْ المقال في الصحيفة اتصلَ بي أحد الأخوة يشكرني على المقال، ويقول لي بأن كل ما ذكرتُه في مقالي صحيح من واقع التجربة التي مرَّ فيها هو شخصياً، ثم شرح لي قصته في ذلك الوقت، أي قبل نحو عشرين عاماً، وهي أصبحت الآن قصة متواترة ومستمرة مازلتُ أسمعها حتى يومنا هذا من أشخاصٍ آخرين عانوا من التجربة نفسها، وليس في البحرين فحسب وإنما في دول خليجية أخرى. ففي كل مناسبة أحضرها، سواء أكانت وليمة، أو حفلة زواج ويتم فيها حرق البخور والعود، فإنني أسمع بعض الأحيان القصة نفسها حول مخاطرهما الصحية على الأفراد، كان آخرها قبل نحو أسبوع.

وملخص هذه القصة أرويها لكم باقتضاب لكي تتأكدوا بأنفسكم بأن التعرض المباشر لملوثات البخور والعود ولفترة طويلة من الزمن وباستمرار له عواقب صحية وخيمة واقعية.

فقد ذهبَ هذا الرجل المريض ذات يوم إلى طبيب الأمراض الصدرية وهو يقاسي من أعراضٍ مرضية مزمنة انكشفت عليه في الجهاز التنفسي، وتتمثل هذه الأعراض في ضيقٍ التنفس وآلام في الصدر، وعندما كشف عليه الطبيب المختص، وفحصه فحصاً دقيقاً، وأخذ عليه الأشعة لمنطقة الصدر، قال له بشكلٍ مباشر وصريح دون تردد: عليكَ أن تُقلع فوراً عن التدخين، فسبب هذه الأعراض والآلام التي تعاني منها هو دخان السجائر الذي يدخل إلى جسمك فيتراكم في الرئتين وتُصاب بضيقٍ في التنفس.
فرد عليه المريض مندهشاً:
ولكنني لا أُدخن!
فقال الطبيب مستغرباً:
فمن أين إذن جاءت هذه الأدخنة والملوثات التي تراكمت في الرئتين التي تظهر على شكلٍ بقع مشهودة لا يمكن لأي طبيب أن لا يراها؟

وبعد حوارٍ طويل بين الطبيب والمريض عن الممارسات والعادات اليومية للمريض، تبين مصدر وسبب هذه المعاناة الطويلة. فقد كان هذا المريض يستنشق بكثافة، ويتعطر في كل يوم قبل أن يخرج من منزله هذه الأدخنة والملوثات التي تتصاعد من حرق البخور والعود، وهذه الجسيمات الدقيقة المتناهية في الصغر والملوثات الخطرة الأخرى كانت تزداد وتتراكم كل يوم في جسمه حتى وصلت إلى النقطة الحرجة الضارة، مما أدت إلى شكوى هذا المريض، وإصابته بهذا المرض التنفسي العضال.

فهذه الحالة المرضية الواقعية التي أَسمعُها بين الحين والآخر منذ قرابة عقدين من الزمن، تَدع لا مجال للشك عن التداعيات الصحية والبيئية لحرق البخور والعود في المنزل، مما يجعلني أؤكد على ضرورة أخذ هذه العادة والتقليد الموجود في بلادنا بشيءٍ من الحذر، والعمل على الاستعمال الصحي والبيئي المستدام، والمتمثل باختصار شديد في تجنب الحرق في بيئةٍ مغلقة لا يتجدد هواؤها، والامتناع عن استخدام الفحم لحرق البخور أو العود، لأن الفحم في حد ذاته تنطلق منه غازات سامة وضارة، ثم الامتناع عن استنشاق دخان البخور أو العود، وأخيراً التعامل مع الرماد المتبقي من الحرق بطريقة سليمة، من حيث منع تطايره في البيئة الداخلية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق