الخميس، 30 يناير 2020

حشرة السرير وصلتْ إلينا

نشرتْ صحيفة البلاد خبراً مهماً في التاسع من يناير، ولا بد لي من التعليق عليه وبيان أهميته وواقعيته ليس في البحرين فحسب وإنما في كل العالم على حدٍ سواء. فقد جاء الخبر تحت عنوان: "مصاص الدماء يهاجم وزارة التنمية بالمرفأ"، حيث ورد فيه بأن "مكاتب موظفي وزارة التنمية بالمرفأ المالي تعاني من هجومٍ شرس من قبل حشرة بقة الفراش التي تتغذى على الدماء كوسيلة لها للنمو والحياة، وبدأ موظفو الوزارة يجرؤون بالشكوى إزاء ما يتعرّضون له يوميّاً من تقرحات في أجسامهم بسبب مهاجمة هذه الحشرة لهم بشكل مستمر".

وفي الحقيقة فإنني لم أستغرب من هذا الخبر، فبقة أو حشرة السرير والفراش تحولتْ إلى حشرة "عالمية"، أي يمكن مشاهدتها في أرقى المرافق وأكثرها شهرة وسمعة، حيث ذكَّرني هذا الخبر بحادثة وقعت قبيل اختتام قادة الدول الصناعية السبع لأعمال قمتهم في 27 أغسطس 2019 في مدينة بياريتز(Biarritz) في جنوب فرنسا، عندما اقترح الرئيس الأمريكي استضافة القادة في القمة القادمة في 2020 في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتحديد في منتجعه في فلوريدا، والمعروف بمنتجع دورال في ميامي (Trump National Doral).

وبعد هذا الإعلان الرئاسي بساعات، نُشرتْ تقارير صحفية من والولايات المتحدة الأمريكية ومن بريطانيا حول وجود حشرة السرير التي تمص دم الإنسان في بعض الغرف في الفندق، ونَقلت هذه الصحف قصة أحد النزلاء في المنتجع في يوليو 2016، والذي رفع دعوى قضائية ضد المنتجع نتيجة للبقع الحمراء التي ملأت كل أعضاء جسمه بسبب عضات حشرة صغيرة وضعيفة يُطلق عليها بحشرة أو بقة السرير بعد أن أمضى ليلة واحدة فيها، حيث نَقلت قصة هذا النزيل في ذلك الوقت صحيفة ميامي هرلد(Miami Herald) في 30 يناير 2017.

ومباشرة بعد انتشار هذا الخبر في وسائل الإعلام، وظهور هاشتاج أو الوسم على التويتر، "بقات سرير ترمب"(#Trumpbedbugs)، سارعَ ترمب في تغريدة له في 27 أغسطس من العام المنصرم قائلاً بأنها إشاعات "خاطئة وشريرة"، وأنها مؤامرة من بعض أعضاء الحزب الديمقراطي. ومن الصحف التي غطت هذا الخبر وتفاصيله وملابساته، جريدة اللوس أنجلوس تايمس في 27 أغسطس، وصحيفة الجارديان البريطانية في 28 أغسطس.

والآن سواء كان هذا الخبر صحيحاً أم لا، فإنني أُريد أن أقف معكم حول قضية هذا الكائن الحي المزعج الذي يعمل كالدرَاكُولا، فيتطفل ويعيش على دماء البشر، ويترك بصماتٍ حمراء شديدة فاقع لونها، لا يمكن تجاهلها أو إهمالها وبحاجة إلى رعاية طبية مباشرة.

والأدهى والأمر من هذا كله، والأشد تهديداً لصحة الإنسان، أن هذا الكائن الطفيلي الآن، بالرغم من أنه لا يقفز ولا يطير، قد تحول اليوم إلى ظاهرة دولية تعاني منها الكثير من دول العالم، وبدأ في السنوات القليلة الماضية بالانتشار سريعاً وبأسهل الطرق وأقصرها وأقلها عناءً في هذه الدول، فهو يعمل كالرحالة، وينتقل مجاناً من بلدٍ إلى آخر دون تذكرة سفر، أو الحصول على تأشيرة، أو جواز سفر، وتجذبه كالمغناطيس حسب الدراسة المنشورة في مجلة "تقارير علمية" في 28 سبتمبر 2017 تحت عنوان :"تجَمعْ بقات السرير على الملابس القذرة: إحدى الطرق لانتشار الحشرة"، الروائح القذرة التي تنبعث من الملابس المتسخة التي تحتاج إلى غسيل، فيختبئ بداخلها ويمكث حياً فيها دون الحاجة إلى غذاءٍ أو طعام، أو أنه يجد سكناً مؤقتاً دافئاً وآمناً له في حقيبة السفر، حتى أصبح الآن مُطارداً ومطلوباً حياً أو ميتاً من كل الناس في كل دول العالم.

فهذه الظاهرة العالمية المزعجة والمقلقة المتمثلة في سرعة انتشار هذه الحشرة بين المدن في الدولة والواحدة وبين دول العالم أجمع، استَدعتْ تنظيم لقاءات تشاورية وتنسيقية بين المعنيين والعلماء ورجال الأعمال لمناقشة وضع وحالة هذه الحشرة في مختلف دول العالم، والتداول حول أنجع الطرق والوسائل لمكافحتها والقضاء عليها. ففي الولايات المتحدة الأمريكية تُنظم قمة سنوية دولية مستمرة منذ عام 2010، تحت عنوان:" القمة العالمية لبقة السرير"، حيث عُقدت آخر قمة في مارس من العام الجاري في مدينة دنفر بولاية كُولورادوا ولمدة ثلاثة أيام وشارك فيها نحو 700، والقمة القادمة ستكون في المدينة نفسها في ديسمبر 2020. 

فهذه الحشرة التي تُشبه الصراصير في لونها وشكلها وحجمها الذي لا يزيد عن أربعة مليمترات، معروفة وموجودة بين أوساط البشر منذ آلاف السنين، ولكن أعدادها ونموها وتكاثرها بين مدٍ وجزر، وبين ارتفاع وانخفاض في كل فترة زمنية، فعلى سبيل المثال، انخفضت أعدادها بشكلٍ ملحوظ في التسعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم بسبب استخدام المبيد الحشري المشهور والمعروف على المستوى الدولي وهو الـ دِي دي تِي، حيث تمكن هذا المبيد الأعجوبة في فترة زمنية قياسية وقصيرة من القضاء عليها إلى درجة كبيرة، ولكن مع الزمن ومع كثرة استعمال هذا المبيد من جهة ثم حظر استعماله من جهةٍ أخرى، تمكنت هذه الحشرة من تحدي عقل البشر وإنتاجه السحري من هذا المبيد، فكوَّنت مع الوقت مناعة ذاتية وقوية، وطورت مقاومة شرسة ضد هذا المبيد، حتى أصبح الآن هذا المبيد غير فاعلٍ وغير سامٍ لهذه الحشرة. ولذلك بدأتْ في استعادة قوتها والانتعاش من جديد، والازدهار مرة ثانية في بيوت الناس، وبخاصة في بريطانيا وبعض الولايات الأمريكية ودول أخرى حول العالم. ومن العوامل التي ساهمتْ بشكل ملحوظ في استعادة هذه الحشرة لنشاطها وحيويتها وسرعة انتشارها هو توسع المد السياحي بين مدن ودول العالم وسرعة وسهولة الانتقال من منطقةٍ إلى أخرى، حيث إن الأبحاث العلمية أكدت بأن للحشرة القدرة على الانتقال مع المسافرين من بلدٍ إلى آخر ثم الاستيطان في البلد الجديد دون أن توجهها أية مشكلات أو معوقات في الاستقرار والتكاثر.
فاحذروا من بقة السرير فهي أخيراً قد وصلت إلينا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق