الثلاثاء، 28 يناير 2020

العالم في مأزقٍ عصيب

دول العالم، وبخاصة الدول الصناعية المتقدمة تواجه أزمة حقيقية مزمنة، وتعيش في مأزقٍ خانق عصيب لا تعرف كيفية الخروج منه. فمن جهة تتعالى صرخات العلماء وتحذيرات الباحثين حول تداعيات التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض، والتهديدات الواقعية التي تمثلها هذه الظاهرة العقيمة على سلامة الإنسان واستدامة الحياة على سطح كوكبنا، ومن جهة أخرى يقف رجال السياسة والنفوذ ومتخذو القرار في دول العالم مكتوفي الأيدي، عاجزين عن اتخاذ القرار الجريء والمناسب لمكافحة هذه التحديات الناجمة عن التغير المناخي.

فالحل المطروح لعلاج هذه الظاهرة الخطيرة معروف لدى الجميع، ولكن اتخاذ القرار صعب جداً، وشديد التعقيد، ومتشابك مع قضايا أخرى حساسة، منها اقتصادية، ومنها اجتماعية، ومنها تنموية تؤثر على استدامة عمليات الإنسان وتنميته، وتنعكس على المكاسب الإيجابية التي حققها طوال العقود الماضية.

فعلاج ظاهرة المناخي سهل في مظهره وشكله، ولكنه كابوس مرعب يلاحق رجال السياسة وصُناع القرار، فعلاج هذه الظاهرة والتخلص من مردوداتها يكمن في نبذ دول العالم أجمع للوقود الأحفوري، والتخلي كلياً عن مصادر الطاقة التي تعمل بهذا النوع الملوث للهواء الجوي وهي النفط، والفحم، والغاز الطبيعي، إضافة إلى مشتقات هذه الأنواع من مصادر الطاقة التي تُستخدم في محطات توليد الطاقة، وفي سياراتنا، وفي طائراتنا، وفي قطاراتنا، وفي مولداتنا، وفي أجهزة ومعدات كثيرة لا يمكننا ببساطة الاستغناء عنها بين عشيةٍ أو ضحاها، قبل وجود البديل غير المكلف مالياً، والدائم، والفاعل، والمضمون الذي يمكن الوثوق به والاعتماد عليه كمصدر للطاقة.

ولذلك نجد بأن دول العالم قاطبة عجزت منذ أكثر من قرابة ثلاثة عقود على الاتفاق جماعياً والالتزام والتعهد بتنفيذ اتفاقية مشتركة مُلزمة للجميع، بحيث تتم محاسبة أية دولة لا تقوم بدورها ومسؤوليتها تجاه هذه المعاهدة وخفض انبعاثاتها من الغازات والملوثات المتهمة بوقوع معضلة التغير المناخي.

فمن أهم الحلول التي تُسهم بشكلٍ فاعل ومباشر في خفض تداعيات التغير المناخي هي التوجه نحو مصادر الطاقة المتجددة وغير الناضبة وغير الملوثة للبيئة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح وطاقة المياه والطاقة الحيوية والطاقة النووية بدلاً من الفحم أو النفط، ولكن المعضلة المعقدة تكمن في أن هذه المصادر النظيفة والمتجددة للطاقة لم تنضج كلها بعد، من حيث الكلفة الاقتصادية، ومن حيث فاعليتها وقدرتها في توليد الطاقة على مستوى المدن الكبرى الواسعة جغرافياً والتي تحتاج إلى مصدر هائل وقوي للطاقة لا يمكن توفيرها من المصادر النظيفة المتجددة الموجودة حالياً في الأسواق، إضافة إلى أن بعضها كالطاقة النووية لها أبعاد متعلقة بالأمن والسلامة ووقعت عدة كوارث تؤكد واقعية هذا التخوف كحادثة ثري ماليز آيلند في أمريكا، وتشرنوبيل وأخيراً فوكوشيما في اليابان.

فهناك إجماع لدى الجميع من علماء وسياسيين بأن الفحم بشكلٍ خاص يُعتبر من أقذر مصادر الطاقة من الناحية البيئية، ومن أهم العوامل المسببة للتغير المناخي، ولكن بالرغم من ذلك فإن رجال السياسة لا يمكنهم اتخاذ قرارٍ يُبعد الفحم عن مشهد توليد الطاقة كلياً، وبالتحديد خلال العقدين القادمين، ولذلك مهما ادعتْ دول العالم حُبها للبيئة وصرَّحت عن مسؤوليتها تجاه مواجهة التغير المناخي، إلا أنها واقعياً وعملياً لن تستغني بهذه السهولة والبساطة والسرعة عن حرق الفحم.

وربما الاستدلال على هذه الحقيقة يأتي من أكبر الدول الصناعية المتقدمة في العالم وهي ألمانيا، حيث نشرت صحيفة النيويورك تايمس الأمريكية مقالاً في 16 يناير من العام الجاري حول إعلان ألمانيا ممثلة في وزير المالية الذي قال بأن ألمانيا "تتخذ خطوات جبارة لتوديع عصر الوقود الأحفوري" وستتخلص كلياً من الفحم، ولكن الثمن سيكون غالياً ومكلفاً جداً، والضريبة التي ستدفعها ألمانيا ستكون باهظة ومرتفعة للغاية، فعلى ألمانيا إنفاق نحو 44.5 بليون دولار لإنهاء عصر الفحم في البلاد، ولن يكون ذلك بعد سنواتٍ قصيرة، وإنما في عام 2038، أي بعد 18 عاماً من الآن، مما يعني بأن الفحم سيظل سيد الموقف في مجال الطاقة، ولا يمكن التخلص منه بسهولة ويسر، والقرار السياسي الخاص بهذا الشأن يكون معقداً وجريئاً وشجاعاً.  

فالفحم في بعض دول العالم المتقدمة والنامية على حدٍ سواء سيظل المصدر الرئيس لتوليد الكهرباء في العالم حتى 2024، حسب التقرير المنشور من وكالة الطاقة الدولية في 18 ديسمبر 2019، ودول العالم اليوم تستهلك فحماً بنسبة 65% أعلى من عام 2000، فالولايات المتحدة الأمريكية، وبخاصة في عهد ترمب خففت من قيود الأنظمة البيئية المتعلقة بمصانع توليد الكهرباء بالفحم لتسمح لها بحرق المزيد من الفحم، والهند ستزيد من استخدام الفحم لتوليد الكهرباء بنسبة 4.6%، والصين مازالت تبني محطات جديدة لتوليد الكهرباء تشتغل بالفحم، حيث إن 59% من الطاقة يأتي من الفحم،  ودول أوروبا الشرقية وبخاصة بولندا وجمهورية الشيك تعتمدان كلياً على الفحم كمصدر رئيس للطاقة، وأستراليا استثمرت بليونين دولار لإنشاء مناجم جديدة للفحم من أجل الاستخدام المحلي والتصدير، كذلك فإن اليابان وبخاصة بعد كارثة فوكوشيما عام 2011 اتجهت نحو "الفحم النظيف" حسب تقرير صحيفة اليابان تايمس في 24 سبتمبر 2019.

ولذلك فالمجتمع الدولي في مأزقٍ شديد لا يمكن الخروج منه بسهولة وبسرعة، فتداعيات التغير المناخي تلاحقنا جميعاً وتتفاقم يوماً بعد يوم، وحاجة الإنسان للتنمية ورغد العيش لا تنتهي، فالمطلوب إذن القرار الدقيق، المتوازن، والمعتدل، والمتنوع، وهو الاستمرار في استخدام الوقود الأحفوري وخفض تدريجي في الاعتماد عليه بدءاً بالفحم ثم النفط وأخيراً الغاز الطبيعي، وفي الوقت نفسه تطوير وازدياد استعمال مصادر الطاقة المتجددة والمضمونة غير الملوثة للبيئة، ولا أحد يعلم كم سيستغرق هذا التحول!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق