السبت، 10 أغسطس 2019

المحميات من أدوات إنقاذ الأحياء من الانقراض


عندما كنتُ مسؤولاً عن إدارة محمية العرين من ضمن المهمات الأخرى لنحو عقدين من الزمان، حرصتُ أشد الحرص على حماية وإكثار الحيوانات العربية النادرة والمهددة بالانقراض كجزء من استراتيجية المحافظة على التراث الطبيعي القومي والإقليمي العربي وصيانته ورعايته لنا وللأجيال اللاحقة من بعدنا، وعلى رأس هذه الحيوانات المها العربية التي تَغني بجمالها الشعراء العرب، ومن بينهم الشاعر العربي العباسي علي بن الجهم عندما قال:
جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري     عُيونُ المها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسر

فهذا الحيوان الجميل والأنيق كان من ضمن القائمة الحمراء التي أوشكتْ جميعها على الانقراض، علماً بأن المها العربية بالتحديد قد انقرضت فعلياً في البرية في السبعينيات من القرن المنصرم بسبب الصيد الجائر في منطقة الخليج العربي، مما جعل بعض حدائق الحيوان ومحميات الحيوانات يخصص برنامجاً خاصاً لإكثار المها العربية استعداداً لإطلاقها وتوطينها وإعادة انتشارها في بيئاتها الصحراوية الطبيعية، فكانت حديقة فينيكس بولاية أريزونا الأمريكية من أولى الحدائق التي نجحت في عملية الإنقاذ والإكثار ثم تلتها المحميات في دول الخليج.

فهذا هو مثال واحد على كيفية إنقاذ كائنٍ حي كان في غرفة الإنعاش في الطوارئ من بين أمثلة كثيرة تؤكد دور المحميات وحدائق الحيوان في الحفاظ على الأحياء، وآخرها ما حدث لأكبر طائر يعرفه الإنسان الآن وموطنه الأصلي في قارة أمريكا الشمالية مثل ولاية كاليفورنيا وأريزونا ويوتاه، حيث كاد أن يكون هذا الطائر العملاق من الماضي القريب، ولكنه بقي حياً على قيد الحياة نشاهده أمامنا ليروي قصة نجاحه وبقائه وعدم انقراضه، وهذا الطائر هو الكوندور (condor) أو النسر العظيم، الذي يبلغ وزنه قرابة 60 كيلوجراماً وطوله نحو متر واحد. فهذا الطائر بسبب تعدي الإنسان على موطنه الفطري الذي يعيش فيه والتغير المناخي الذي ضرب الكرة الأرضية، إضافة إلى أكله لجيف وبقايا الحيوانات البرية التي يتركها الصيادون فتكون مسمومة وملوثة بالرصاص المستخدم في أسلحة الصيادين. فنتيجة لهذه الأسباب بدأت أعداد هذا الطائر في الانخفاض تدريجياً حتى أن إجمالي أعدادها في عام 1982 بلغ 22 فقط مما أضطر المعنيون إلى إعلان حالة الطوارئ القصوى، والبدء فوراً في برنامج إكثار هذا الطائر العظيم في محميات ومتنزهات خاصة من بينها متنزه زيون الوطني في ولاية يوتاه(Zion National Park in Utah)، حيث وصل العدد الآن إلى نحو ألف نسر تم إطلاقهم وإعادة توطينهم في بيئاتهم الفطرية التي عاشوا فيها.

وبالرغم من هذه الجهود الجبارة والنفقات الباهظة والأوقات الثمينة التي تصرف على إنقاذ حياة الأحياء من الموت الدائم والانقراض الكلي، إلا أن مدَّ انقراض الأحياء جارف جداً، وتيار القضاء على الأحياء قوي وسريع ولا يمكن إيقافه والوقوف في وجهه، ففي كل يوم نقرأ تقريراً مخيفاً حول الأعداد المهولة من الكائنات الحية النباتية والحيوانية التي تنمحي من وجه الأرض، أو تنخفض أعدادها بدرجةٍ تجعلها مهددة بالزوال والانقراض من على سطح كوكبنا، وفي المقابل أيضاً هناك أبحاث ودراسات تؤكد التدهور النوعي وليس الكمي فقط لهذه الكائنات الحية المنتجة والمعطاة من خلال تلوث الأوساط البيئية التي تعيش فيها، أو صرف المخلفات السائلة والصلبة مباشرة في أماكن وجودها، أو التغير المناخي والمتمثل بشكلٍ رئيس في ارتفاع درجة حرارة الأرض، فكل هذه العوامل تؤثر على الأمن الصحي لهذه الكائنات الحية، ولها مردودات عكسية خطيرة تهدد تكاثرها ونموها وتطورها.

ومن بين هذه التقارير الدورية ما يُطلق عليه "تقرير القائمة الحمراء" والذي يصدر من الاتحاد الدولي لصون الطبيعة والمنشور في 18 يوليو من العام الجاري، حيث يفيد هذا التقرير الأخير بأن قرابة 28338  كائناً حياً يواجهون التهديد بخطر الانقراض بسبب أنشطة الإنسان المدمرة والمفسدة للحرث والنسل، منها الصيد الجائر في البر والبحر، ومنها القضاء على البيئات الفطرية الطبيعية للحياة الفطرية البرية والبحرية، كعمليات دفن سواحل البحر، أو إزالة الغابات، أو تغير أنماط استخدام الأراضي وتطويرها، ومن العوامل المستجدة الخطيرة التي دهورت صحة الحياة الفطرية من الناحيتين النوعية والكمية وأثرت بشكلٍ سلبي كبير على التنوع الحيوي هي التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة كوكبنا.
فالتغير المناخي كما هو معلوم الآن له تداعيات كثيرة وسريعة ويضرب فجأة مساحات واسعة من الكرة الأرضية، ولا تتمكن الكائنات الفطرية الحية من التكيف والتأقلم مع هذه التغيرات الجذرية بالسرعة المطلوبة لكي تتجنب أي تأثيرٍ عليها، أو تفادي أي ضرر يلحق بها وعلى نوعية حياتها وتكاثرها، مما قد يؤدي مع الوقت ومع ارتفاع وتيرة التغير المناخي وازدياد شدته إلى هلاك هذه الكائنات والقضاء عليها بأعدادٍ كبيرة وعلى نطاق جغرافي واسع.
وقد نبهتْ دراسة منشورة في مجلة "اتصالات الطبيعة"(Nature Communications) في 23 يوليو من العام الجاري تحت عنوان: "استجابات الحيوانات للتكيف للتغير المناخي غير كافية" إلى هذه الحالة المحتملة المتمثلة في الانقراض الجماعي للكائنات الحية بسبب عدم قدرتها على مواجهة انعكاسات التغير المناخي والتأقلم في استمرارية حياتها تحت هذه الظروف المناخية الجديدة.
ولذلك مع هذه المتغيرات الجذرية التي تعاني منها الكرة الأرضية برمتها، ومع هذه العوامل الكثيرة المدمرة التي تواجهها الكائنات الفطرية النباتية والحيوانية، فإن أخوف ما أخافه هو اختفاء الحياة الفطرية من بيئاتها الطبيعية، فلا نرى ولا نشاهد الحيوانات والحشرات خاصة إلا في المحميات الطبيعية، أو الحدائق والمتنزهات العامة، أو المتاحف الوطنية!

                                           


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق