الخميس، 1 أغسطس 2019

خطاب إلى الأطباء


منذ أكثر من 35 عاماً وأنا أبحثُ وأُتابع كل المستجدات المتعلقة بالبيئة وهمومها وشؤونها بشكلٍ عام، وتلوث الهواء بشكلٍ خاص، وخلال هذه الفترة الزمنية الطويلة تغيرت الكثير من المفاهيم المتعلقة بتلوث الهواء، واستجدت حقائق لم يكن يعرفها الإنسان حول الملوثات الموجودة في الهواء الجوي ومصيرها عندما تكون في الهواء مع ملوثات أخرى وطرق تفاعلها مع بعض، إضافة إلى التغير في أسلوب وكيفية تأثير هذه الملوثات على أعضاء جسم الإنسان، ومجال تأثيراتها على هذه الأعضاء والأهداف التي تصل إليها في نهاية المطاف عندما تلج إلى أجسامنا.

وهذه المعلومات الحديثة التي أَطلعُ عليها كل يوم ليست ثابتة وجامدة، وإنما تتجدد بشكلٍ سريع وتتطور كثيراً مع الزمن فوق توقعات المختصين والعلماء، وفوق قدراتهم العلمية وإمكاناتهم العملية وخبراتهم التي اكتسبوها مع الزمن، فأصبحت الملوثات لا تهاجم عضواً مُحدداً، كالجهاز التنفسي فقط، وإنما أصبحت الآن لها القدرة على غزو واحتلال كل خلية من خلايا جسم الإنسان، مهما كانت بعيدة ونائية ومعزولة عن الجهاز التنفسي، كخلايا المخ والقلب وخلايا مشيمة المرأة الحامل وغيرها، فالتلوث أصبحت له قدرات خارقة وشاملة، ولذلك أُطلق عليه دائماً بقنبلة الدمار الشامل للجسم البشري.

فالعلماء كانوا يظنون في مطلع القرن العشرين بأن الملوثات عندما تنبعث إلى الهواء الجوي تعمل بشكلٍ مستقلٍ فردي لا علاقة مع بعضها البعض في بيئة الهواء، ولا علاقة لها مع المواد الطبيعية الموجودة أصلاً في الهواء الجوي، ثم مع انكشاف ظاهرة المطر الحمضي تأكد العلماء بأن الملوثات قد يحصل بينها احتكاك وتفاعل عندما تكون مع بعض في الهواء الجوي، ففي حالة المطر الحمضي، أو الثلج الحمضي كانت الملوثات التي تنبعث من المصادر المختلفة كثاني أكسيد الكبريت، وثاني أكسيد النيتروجين، وثاني أكسيد الكربون تتفاعل مع الرطوبة والماء الموجود في الطبقات العليا في السماء فتكون أحماضاً سامة كحمض الكبريتيك والنيتريك والكربونيك، فتنزل من السماء على الناس مطراً حمضياً يفتك بصحة الإنسان ويأكل المواد والتماثيل والمباني ويدمر النبات والشجر. 

ثم في الأربعينيات من القرن المنصرم انكشفت في سماء بعض المدن، وبالأخص مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، ظاهرة عصيبة أَسقطتْ الناس في المدن بين جريحٍ من تأثير الملوثات وصريعٍ من تجرع كأسها، وبعد سنوات من البحث والتنقيب، اكتشف العلماء أن الملوثات عندما تنطلق إلى الهواء تتفاعل مع بعض في بيئة الهواء، وتكون غولاً خطيراً من الملوثات الجديدة التي هي أشد وطأة وأكثر تنكيلاً بصحة البشر والحجر والشجر، فعلى سبيل المثال عند انطلاق أكاسيد النيتروجين والملوثات العضوية تتفاعل مع بعضها البعض وبوجود أشعة الشمس فتنتج عنها قائمة طويلة من الملوثات المؤكسدة التي تهدد بشدة الصحة العامة، وعلى رأسها غاز الأوزون القاتل والسام.

أما الأطباء فكان تركيزهم في القرن الماضي على التأثيرات الضارة لملوثات الهواء على الجهاز التنفسي عامة، وبخاصة الرئتين، حيث إن الاعتقاد التقليدي السائد هو أن الملوثات تنتقل إلى جسم الإنسان عن طريق الأنف من خلال عملية التنفس، ولذلك فالجهاز التنفسي هو أول عضو يكون في الصدارة وفي مواجهة التلوث، وأي ضررْ سيقع عليه مباشرة وبشكلٍ فوري، بدءاً بالأنف، والحنجرة، والجزء العلوي من الرئتين، ثم أعماق الرئتين، وبالتحديد في الحويصلات الهوائية، حيث كان يظن الأطباء بأنها هي مقبرة الملوثات التي تتجمع وتستقر فيها وهي المثوى الأخير لها.

ومنذ سنوات قليلة بدأ العلماء في سبر غور مجالٍ بحثي جديد هو قدرة الملوثات على الانتقال من الرئتين إلى باقي أعضاء الجسم من خلال الولوج في الدورة الدموية، فنُشرت الكثير من الدراسات والأبحاث الميدانية التي أجمعت الآن بأن الملوثات تنتقل إلى مجرى الدم وتغزو كل خلية من خلايا أعضاء الجسم أينما كانت، فتُعرض هذا العضو للأسقام والعلل المزمنة.

فعلى سبيل المثال، هناك دراسة عُرضت في 17 سبتمبر 2018 في المؤتمر الدولي الذي عُقد في باريس بتنظيم من جمعيات الجهاز التنفسي الأوروبية والتي أكدت لأول مرة وجود جزيئات الدخان الأسود المتناهية في الصغير والتي لا ترى بالعين المجردة في مشيمة المرأة غير المدخنة بعد ولادتها، مما يثبت بأن استنشاق الأم للملوثات يؤدي إلى انتقالها من الجهاز التنفسي إلى مجرى الدم وأخيراً الاستقرار في المشيمة التي تربط بين الأم وجنينها، أي أن حتى الجنين وهو في رحم أمه، ذلك المكان الآمن والمظلم، لا يسلم من غزو الملوثات.

واليوم عَثر العلماء على اكتشاف مخيف ومقلق جداً في قلب الإنسان، حيث نبض الحياة الدائم، ونشروا نتائج اكتشافهم في مجلة أبحاث البيئة في 12 يوليو من العام الجاري تحت عنوان:" وجود الجسيمات الممغنطة المتناهية في الصغر الناجمة عن تلوث الهواء من حرق الوقود في قلب الإنسان". فقد قام الباحثون بتحليل أنسجة القلب من 72 شاباً من المكسيك ماتوا بحوادث الطرق، ثم أجروا تحليلاً لهذه الأنسجة وعثروا فيها على مستويات مرتفعة جداً من جزيئات الدخان الأسود المجهري (nanoparticles)المشبعة بالحديد الممغنط، حيث تراوحت أعدادها بين بليونين إلى 22 بليون من هذه الجسيمات في الجرام الواحد من الأنسجة الجافة للبطين، وهذا العدد المرتفع والعالي يزيد عشر مرات عن الإنسان المكسيكي الذي يعيش في مناطق أقل تلوثاً من العاصمة المكسيكية. وقد استنتج العلماء بأن التعرض للدخان الناجم من عوادم السيارات والمصانع وغيرهما في سن مبكرة واختراق هذه الملوثات لخلايا وأنسجة القلب له مردودات سلبية خطيرة على قيام القلب لأداء وظيفته، ويسبب ضعفاً لقدرته وعمله في كل ثانية، كما إن هذه الملوثات هي المتهم الرئيس في تلف خلايا القلب بشكلٍ عام وتعريض الإنسان لمخاطر أمراض القلب والموت المبكر.

وهذا الاكتشاف يؤكد ظاهرة ارتفاع أعداد المصابين بأمراض القلب من جهة، وازدياد أعداد الموتى من الشباب وهم في ريعان شبابهم من جهة أخرى، سواء على مستوى البحرين ودول الخليج، أو على مستوى دول العالم برمتها.

ولذلك أوجه نداءً عاجلاً إلى الأطباء عامة، وأطباء القلب خاصة إلى ضرورة وضع العامل البيئي الخاص بالتلوث ضمن العوامل الرئيسة للوقوع في شباك الأمراض الحادة والمزمنة، والعمل على وأد مصادر المخاطر التي تهدد أداء القلب، ومن أشدها تدميراً لصحة أبداننا وقلوبنا تلوث الهواء الجوي من السيارات بشكلٍ خاص، فأطباء القلب مؤتمنون على أهم مُضخة موجودة في جسد الإنسان، فإذا صلَحتْ صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله وهي القلب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق