الثلاثاء، 27 أغسطس 2019

الحضارة البيئية


عندما بدأتْ الصين برنامجها التنموي في نهاية السبعينيات من القرن المنصرم كان الهم الوحيد عند متخذي القرار هو تحقيق نموٍ اقتصاديٍ سريع وكبير، وكان الهدف الرئيس هو رفع الدخل القومي وزيادة رفاهية الدولة ومستوى المعيشة، ولذلك اتجهت البوصلة مباشرة نحو تطوير الأداء الاقتصادي، ودفع العجلة بأقصى سرعة ممكنة لزيادة معدلات النمو، ورفع الـ جِي دِي بِي أو الناتج المحلي الإجمالي.

وبالفعل، نجحت الصين في تحقيق هدف النمو، حتى إنها كانت الدولة الأكثر نمواً والأسرع اقتصاداً على المستوى الدولي، حيث بلغ أعلى معدل للنمو وهو أكثر من 10%.

ولكن السؤال الذي طرحتُه عدة مرات في مقالات سابقة: هل هذا النمو كان مستداماً؟
أي هل نجحت الصين في الثبات والاستقرار على هذه النسبة العالية من النمو الاقتصادي؟
وما هي تداعيات هذا النمط من التنمية الذي لا يسعى إلا للنمو الاقتصادي البحت على حساب القطاعات الأخرى وعلى حساب صحة الناس والأمن البيئي؟

الإجابة عن هذه الأسئلة جاءت على لسان الحكومة الصينية نفسها ومن تصريحات جميع الجهات الرسمية، سواء من الرئيس الصيني نفسه، أو من رئيس الوزراء، أو من مجلس الشعب، فالجميع اعترف بفشل هذا النمط من التنمية الأحادية غير المستدامة التي تجاهلت كل الاعتبارات الأخرى، سواء أكانت الاعتبارات الصحية، أم البيئية، أم الاجتماعية.

وبناءً على هذا الفشل الذريع الذي أصبحت له مردودات أمنية وصحية وبيئية واقتصادية عكسية استنزفت ميزانية الدولة وأثرت على الأمن القومي، اضطرتْ الحكومة الصينية إلى إحداثٍ تغيير جذري مُعمق في النموذج التنموي الذي تريده للصين في المستقبل، وقررت استبدال النمط التنموي المعوقْ إلى التنمية المستدامة التي تُعطي أهمية لكل الأبعاد الأخرى المرتبطة بأي برنامجٍ أو نشاط تنموي، وأَطلقتْ عليه اسماً جديداً هو "الحضارة البيئية".

وقبل أن أَدخلَ في تفاصيل هذه الرؤية الصينية الجديدة للتنمية، أُقدم لكم أمثلة من تصريحات ومواقف المسؤولين في الحكومة الصينية لتتأكدوا من جدية هذه القرار ومصداقيته، فقد أعلن الرئيس الصيني في عام 2014، ولأول مرة في تاريخ البشرية الحرب رسمياً على "التلوث" بكل أنواعه وأشكاله، ومنذ ذلك العام وحتى يومنا هذا فهو يستغل كل مناسبة ليجدد التزامه لحماية البيئة الصينية، ويؤكد تعهداته ووعوده السابقة من أجل منع التلوث عن بيئة الصين والحفاظ على الصحة العامة للمواطنين. وفي الخامس من مارس 2018 في الاجتماع السنوي للحزب الشيوعي الشعبي الحاكم قال مخاطباً قادة الحزب ورئيس الوزراء:" لا تُفكروا أبداً في تدشين مشاريع تُدمر البيئة من أجل تحقيق النمو الاقتصادي، أو تحاولوا خرق الخطوط الحمراء التي أُقرت لحماية البيئة، حتى لو كُنا نواجه بعض الصعوبات للتنمية الاقتصادية"، كما أضاف قائلاً بأن:" الاقتصاد الصيني يتحول من سياسة النمو السريع المتعاظم إلى سياسة التنمية ذات الجودة والنوعية العالية، فلا بد من تخطى العوائق والصعوبات المتعلقة بمنع التلوث والحاكمية البيئية".

فهذا المنهج والنموذج الصيني الشمولي في التنمية والذي يُؤسس لمرحلة جديدة طَرحَ رؤيتين هامتين يجب الوقوف عندهما لنتعلم ونستفيد منهما في بلادنا، أما الرؤية الأولى فهي مصطلح وفكرة "الحضارة البيئية"، كما ذكرنا من قبل، حيث نشرت صحيفة يوميات الصين(China Daily) في العشرين من أغسطس من العام الجاري تحقيقاً حول أبرز المبادئ والأسس المتعلقة بالحضارة البيئية، نقلاً عن تصريحات للرئيس الصيني في 19 أغسطس من العام الحالي. وهذه المبادئ أُلخصها في النقاط التالية:
أولاً: الحضارة البيئية تَنطلقُ أساساً من دور الإنسان في الأرض والهدف من وجوده، والذي يتمثل في تعمير الأرض وإحيائها وبنائها له وللأجيال اللاحقة من بعده، بحيث إن الإنسان يحقق العدالة البيئية بين هذا الجيل والأجيال اللاحقة فيورِّثَهم موارد سليمة غير ملوثة وتكفي لاحتياجاتهم المعيشية والتنموية، أي يورِّثُهم موارد تتمتع بصحةٍ جيدة من الناحيتين الكمية والنوعية.

ثانياً: إحداث توازنٍ دقيق بين حجم استهلاك الموارد الطبيعية والأنشطة التنموية من جهة، وقُدرة هذه الموارد والثروات البيئية على الاستدامة في العطاء نوعياً وكمياً من جهةٍ أخرى.
ثالثاً:  موارد وعناصر البيئة من ماء وهواء وتربة وحياة فطرية نباتية تعتبر أُصول ورأس مال البشرية التي لا تُقدر بثمن، وهي التي تقوم عليها التنمية المستدامة والحضارة البيئية الشاملة.

وأما الرؤية الصينية الجديدة الثانية للتنمية فهي العمل على تحفيز وتشجيع نوعٍ محدد من التنمية والتي أُطلقَ عليها "التنمية ذو الجودة العالية". وهذا النوع من التنمية يتميز بعدة خصائص منها تجنب الأنشطة والمشاريع التنموية التي لا تتناسب مع حجم الموارد والثروات البيئية الطبيعية الموجودة في البلاد. فعلى سبيل المثال، إذا كانت الدولة ليست لها موارد طبيعية للمياه العذبة أو تعاني من فقرٍ مائي عام، فعليها عدم القيام بمشاريع شديدة الاستهلاك للثروة المائية، كذلك إذا كانت الدولة فقيرة في مصادر الطاقة، فمن الأولى لها تجنب المشاريع التي تستنزف هذه المصادر للطاقة. وعلاوة على ذلك، فإن التنمية ذات الجودة العالية تؤكد على الابتعاد كلياً عن المشاريع الملوثة للبيئة والمهلكة لصحة الإنسان والحياة الفطرية.

فهذه التجربة الصينية السابقة والحالية في العملية التنموية نشاهدها أمامنا الآن، ونَرى تداعياتها بأُم أعيننا كل يوم، فأتمنى دراستها وأخذ العبر والعظات منها وعدم تكرار أخطائها، فأُلوا الألباب يتعظون بالتاريخ قبل أن يتعظ التاريخ بهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق