الثلاثاء، 20 أغسطس 2019

مخلفاتنا البلاستيكية تُلاحقنا أينما كُنا


اكتَشفتْ الدراسات العلمية الميدانية الحديثة بأن المخلفات البلاستيكية الصغيرة الحجم المعروفة بالميكروبلاستيك قد غزت واحتلت كل بقعةٍ صغيرة وكبيرة، قريبة وبعيدة في كل أنحاء البيئة، وفي كل مكونات البيئة الحية في البر والبحر، وفي جميع عناصرها غير الحية من هواء وماء وتربة أينما كانت، وأينما وجدت، سواء في أعماق المياه الجوفية تحت الأرض أو في التربة والكائنات الفطرية الحية التي تعيش في جوف المحيطات السحيقة المظلمة، كما اكتشف العلماء هذه الجسيمات البلاستيكية الدقيقة أيضاً في جسم الإنسان وفي مياه الشرب التي تصل إلى منزله.

وفي السنوات القليلة الماضية اتجهتْ أنظار العلماء وتوجهت دراساتهم الميدانية لسبر غور إمكانية وجود البلاستيك في أكثر المواقع بُعداً عن النشاط البشري، وأشدها قسوة من الظروف المناخية وأحوال الطقس، كالقطبين الشمالي والجنوبي، حيث البرد الشديد القارس، والظلام الدائم، والمسافة البعيدة النائية عن أيدي الإنسان الملوثة لبيئته. ففي مثل هذه البيئات البكر النائية التي لا يوجد لها مثيلاً على سطح كوكبنا، وفي مثل هذه المواقع الفريدة لا يتوقع أي إنسان وجود أي نوعٍ من الملوثات، ولا يخطر على بال أحد وجود أي نوع من المخلفات البشرية، وبالتحديد البلاستيكية.

ولكن في هذا العصر الذي ضرب فيه التلوث أطنابه في كل أرجاء بيئتنا، وتجذر في عناصرها صغيرة كانت أم كبيرة، وتعمق في أعضاء أجسادنا، فإن وجود الملوثات في مثل هذا البيئات البعيدة والنائية قد يكون أمراً محتملاً وواقعاً فعلاً.

وقد جاءت الإجابة عن هذا التساؤل من خلال أبحاث معهد ألفرد وجينر الألماني(Alfred Wegener Institute) المختص في دراسات القطب الشمالي والجنوبي، حيث نَشَر المعهد دراسة ميدانية تحليلية وتفصيلية في مجلة "تطورات العلوم"( Science Advances) في 14 أغسطس من العام الجاري تحت عنوان:" أبيض وعجيب؟ الميكروبلاستيك يسُود في الثلج من جبال الألب إلى القطب الشمالي"

فقد قام الباحثون بأخذ عينات من الثلج في مواقع مختلفة، منها جبال الألب الشاهقة في سويسرا، ومنها منطقة القطب الشمالي البعيدة والنائية، وقد تم بعد تحليل العينات باستخدام الميكروسكوب الإلكتروني التأكيد على وجود كميات كبيرة من مخلفاتنا البلاستيكية الصغيرة الحجم في كل هذه المواقع وفي القطب الشمالي، حتى في مناطق القطب الشمالي الأكثر بُعداً عن أيدي البشر وأنشطته مثل جزيرة سفالبارد(island Svalbard)، حيث بلغ التركيز في الثلوج في القطب الشمالي 14400 جسيم دقيق من مخلفاتنا البلاستيكية في اللتر من ماء الثلج.

كما استنتجت الدراسة إلى أن هناك 19 نوعاً مختلفاً من مخلفاتنا البلاستيكية والألياف البلاستيكية التي تم اكتشافها في عينات الثلوج، ونوع مخلفاتنا البلاستيكية يختلف حسب الموقع، ففي ثلوج القطب الشمالي كان المطاط وبالتحديد مطاط النيترايل(nitrile rubber) من أكثر الأنواع شيوعاً وانتشاراً، وهذا النوع يتحمل الحرارة والرطوبة العالية ولذلك يدخل في صناعة الأنابيب وحواشي الإِحكام أو الجاسْكِيت(gaskets) وإطارات السيارات وعوازل أسطح المباني، وبلاستيك الأكريليت(acrylates)، والأصباغ التي يدخل البلاستيك في تركيبها ولها تطبيقات كثيرة جداً منها طلاء السيارات والسفن والمباني والمساكن، إضافة إلى البولي إيثلين المستخدم في صناعة الأكياس البلاستيكية وغيرها من المنتجات الكثيرة، كذلك كان هناك البولي بروبلين، والبولي ستايرين، والبولي فاينل كلوريد.
 
كما نشر المعهد في دراسات سابقة تحليلاً شاملاً لمخلفاتنا البلاستيكية في ثلوج بحر القطب الشمالي، حيث تراوح التركيز بين 1100 إلى 12000 من مخلفاتنا البلاستيكية الدقيقة في اللتر من ثلج البحر القطبي، إضافة إلى أعماق التربة القاعية في البحر القطبي إذ تراوح التركيز بين 40 إلى 3460 قطعة بلاستيكية مجهرية.

والسؤال المحير الذي يطرح نفسه الآن هو: كيف وصلت مخلفاتنا البلاستيكية التي تنتج في مدننا إلى مسافة عشرات الآلاف من الكيلومترات في تلك البقع العذراء النائية من سطح الأرض وفي جميع عناصرها البيئية الحية وغير الحية؟

وقد أكدت هذه الدراسات على أن مخلفاتنا البلاستيكية التي نطلقها بأيدينا إلى بيئتنا تأخذ عدة مسارات، منها في هذه الحالة أنها أولاً تتفتت وتتكسر إلى جسيمات وقطع متناهية في الصغر فتنتقل إلى الهواء الجوي ومنها تحملها الرياح على ظهرها إلى أن تحط عن طريق الترسب، سواء الترسب الجاف أو الرطب المتمثل في الأمطار والثلوج، حيث تقوم الأمطار والثلوج بامتصاص مخلفاتنا فتنزل على كل شبر صغير من سطح الأرض مهما كان بعيداً، ومنها القطب الشمالي، وبعد نزوله ينتقل مع الوقت إلى الأوساط المختلفة فيصبح جزءاً من السلسلة الغذائية حتى يصل إلى كل كائن حي يعيش في تلك المناطق.
ومثل هذه الدراسات يجب أن تدق ناقوس الخطر وتحذر الإنسان من تهديد مؤكد لأمنه الصحي، فانتقال مخلفاتنا البلاستيكية إلى الهواء الجوي يؤكد بأننا نستنشق هذه المخلفات دون أن نعلم، فتنتقل إلى كافة أعضاء أجسامنا دون أن نشعر، أو أن نحس بوجودها معنا.     

ونظراً لواقعية هذا التهديد الجماعي المشترك، وتأثيره التدميري الشامل لصحتنا وأمن بيئتنا، لم يتمكن قادة الدول الصناعية الكبرى في قمتهم التي عُقدت في مدينة أوساكا اليابانية في الفترة من 28 إلى 29 يونيو من العام الجاري من تجاهل هذه القضية القادمة وغض الطرف عنها، حيث في بيانهم الختامي إلى بذل جهود أكبر لإدارة المخلفات البلاستيكية بشكلٍ فاعل ومستدام والتفكير في حلول إبداعية جديدة، وبالتحديد بالنسبة لمخلفاتنا البلاستيكية في البيئات البحرية.

فنحن الآن في سباقٍ مع الزمن بالنسبة للتعامل مع مخلفاتنا البلاستيكية، فلمن ستكون الغلبة في نهاية المطاف؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق