الجمعة، 9 أغسطس 2019

الدول الصناعية تقدمتْ على حساب الدول المستضعفة


تقدمت الدول الصناعية الكبرى وتطورت لأسباب كثيرة منها استقطاب العقول العلمية المبدعة، وتشجيع العلم والعلماء معنوياً ومادياً، ومنها نهب الثروات الطبيعية للدول الفقيرة المستضعفة والنامية التي لم تكن تعرف القيمة الحقيقية لخيراتها التي أودعها الله لها في باطن الأرض، كما لم تكن لديها القدرة العلمية والتقنية لاستخراج هذه الثروات واستغلالها كلياً على المستوى القومي. وعلاوة على ذلك كله، فقد نمت وطورت الدول الغنية الصناعية الغربية والشرقية قُدراتها العسكرية الدفاعية والهجومية وأنتجت وجربت أسلحة الدمار الشامل في أراضي الدول التي لا حول لها ولا قوة ولا نفوذ دولي، فاستغلت جهلها، وقلة حيلتها، وهوانها وضعفها واستباحت حرماتها وهددت الأمن الصحي لبيئاتها وشعوبها لإجراء الكثير من تجاربها النووية بشكلٍ خاص على الحدود الجغرافية لهذه الدول.

وتكمن الكارثة الكبرى في إجراء التجارب النووية والتفجيرات الذرية في أنها تترك بصماتها السرطانية وآثارها القاتلة في مناطق التجارب وفي مساحات جغرافية واسعة، فيتعرض لها أبد الدهر الحجر والبشر والشجر، فبالرغم من أن هذه التجارب أُجريت في الأربعينيات إلى الستينيات من القرن المنصرم، أي قبل أكثر من سبعين عاماً، إلا أن التلوث الإشعاعي الذي انبعث منها أصبح الآن خالداً مخلداً في جميع مكونات بيئاتها، وفي أجسام سكانها، وفي أنسجة كائناتها الفطرية البرية والبحرية. 

فالولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تتزعم المعسكر الغربي في الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتي زعيم المعسكر الشرقي، أَجرتْ وحدها 1054 تجربة نووية في الفترة من 1946 إلى 1992 معظمها تحت الأرض، كما أنها قامت بـ 67 انفجاراً نووياً في الفترة من 1946 إلى 1958 في عدة مواقع في جزر المارشال في المحيط الهادئ دون أن ترقب إلاَّ ولا ذمة في سكان هذه الجزر وبيئاتها الطبيعية من المياه الجوفية، ومياه المحيط، والتربة، والهواء الجوي، حيث إنها سممت بالإشعاع السرطاني القاتل مساحة تُقدر بنحو مليون كيلومتر مربع، أي أكبر بنحو ألف مرة من مساحة البحرين، حتى أن هذه الملوثات الإشعاعية تغلغلت في جميع مكونات البيئة منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا، وستظل متجذرة في أعماقها فتهلك الحرث والنسل، والحجر والشجر إلى أن يشاء الله.

وقد أُجريتْ الكثير من الدراسات الميدانية، واتخذت القياسات لمستوى الإشعاع في بيئة جزر المارشال منذ عدة سنوات، كان آخرها سلسلة من الأبحاث أَجرتْها جامعة كولومبيا ونُشرت في 15 يوليو من العام الجاري في مجلة أمريكية هي وقائع الأكاديمية القومية للعلوم.  

فالبحث الأول كان تحت عنوان: "مستوى أشعة جاما في شمال جزر المارشال"، حيث قام الباحثون بقياس مستوى الإشعاع في الهواء والتربة في 11 جزيرة من جزر مارشال، وأكدوا على أن تركيز الإشعاع حالياً في بعض الجزر يفوق تركيز الإشعاع في منطقة كارثة تشرنوبيل في أوكرانيا في 26 أبريل 1986، وفي فوكوشيما في اليابان في 11 سبتمبر 2011، فقد بلغ 648 مِيلي رَمْ من الإشعاع في السنة، علماً بأن المواصفة الأمريكية تفيد بأن الحد الأقصى المسموح به للتعرض البشري يجب أن لا يتعدى 100.

كذلك أكدت القياسات الخاصة بتركيز العناصر المشعة في التربة عن ارتفاع مستوى الإشعاع في التربة في بعض المواقع، فعلى سبيل المثال بلغ أعلى مستوى 7140 بيكيرل من السيزيم-137 المشع في الكيلوجرام من التربة، علماً بأن المواصفة اليابانية الخاصة بمستوى الإشعاع في التربة الزراعية يجب أن لا يزيد عن 5000.
أما الدراسة الثانية فقد تناولت جانباً لا يقل خطورة عن البحث الأول وهو قياس عنصر السيزيوم-137 المشع في الفواكه التي يتغذى عليها السكان في جزر المارشال، وهما شجر جوز الهند وشجر البناندانس(pandanus) المشابه للنخلة، حيث وصلت درجة الإشعاع نسباً مرتفعة هي 3770 بيكيريل من الاشعاع في الكيلوجرام من الفاكهة، علماً بأن المعايير الأمريكية تحدد نسبة إشعاع لا تتجاوز 1200 في جميع الفواكه لكي تصلح للاستهلاك الآدمي والاتحاد الأوروبي يتبنى مواصفة 600 فقد للبرتقال.
والدراسة الثالثة والأخيرة فقد قَدمتْ خارطة الإشعاع في التربة القاعية على عمق قرابة 60 متراً وفي مساحة أكبر من كيلومترين مربعين للمحيط نتيجة للتفجيرات النووية في جزر المارشال، وقد اختارت الدراسة الموقع البحري الذي أُجري فيه تفجير أكبر قنبلة هيدروجينية في جزر بيكيني(Bikini) في الأول من مارس 1954 وأُطلق عليه إسم كاسل برافو(Castle Bravo)، علماً بأن هذه القنبلة من شدتها وقوتها حولت تربة الجزيرة كلها إلى بخار، وتركت حفرة عمقها زهاء 75 متراً، وقطرها أكثر من 1.5 كيلومتر، فقد كانت أقوى بأكثر من 1000 مرة من القنبلة الذرية التي أُلقيت على هيروشيما وناجازاكي في اليابان في السادس والتاسع من أغسطس 1945. وهذه الدراسة أكدت كما في الدراسات السابقة وجود نسبٍ مرتفعة من الإشعاع في قاع المحيط في بعض المواقع.

فهذه الدراسات الميدانية الأمريكية تؤكد بما لا يترك أي مجال للشك أو الشبهات بأن التلوث الإشعاعي الناجم عن تجارب القنابل الذرية والهيدروجينية الأمريكية التي أُجريت في جزر المارشال قد ضربت أطنابها في جميع مكونات وأوساط البيئة من هواء، وتربة زراعية، وتربة المحيط القاعية، وغذاء الإنسان، ولا ريب بأن الإنسان نفسه قد تعرض مباشرة لهذه الإشعاعات وسقط ضحية للأمراض المزمنة التي تنتج عنها، وهذه المردودات البيئية والصحية والاجتماعية والاقتصادية ستبقى يعاني ويقاسي منها سكان هذه الجزر لعقود طويلة قادمة دون أن يكون لهم سند يُرجِع لهم حقوقهم، أو يعوضهم، أو يعيد تأهيل بيئتهم ويعالج مرضاهم وأسقامهم.

فما قدمتُه لكم مجرد مثال واحد فقط، وفي مجال جديد لم يكتب عنه الكثيرين لشح وعدم وجود معلومات "كمية" وموثقة حول الاستغلال البشع للدول الصناعية الكبرى لشعوب وممتلكات الضعفاء من الدول، والقيام باستباحة والتعدي على حرماتها وثرواتها الطبيعية والبيئية من أجل تنميتها ورقي ورفاه شعوبها، وهذا المثال يصب في التدمير البيئي الممنهج طويل الأمد لهذه الدول الفقيرة، وتلويثها، وإفساد صحة عناصر بيئاتها وشعوبها وأحيائها الفطرية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق