الجمعة، 16 أغسطس 2019

ظاهرة نفوق الأسماك في البحرين


في يوم 14 أغسطس من العام الجاري، أرسل لي بعض الأخوة الفضلاء صوراً عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي لنفوق كميات كبيرة من الأسماك الصغيرة من نوع "العفاطي" في ساحل المعامير في خليج توبلي، وطلبوا مني تفسيراً لهذا الموت الجماعي للأسماك.

وفي الحقيقة فإن ظاهرة نفوق الأسماك بشكلٍ عام ليست ظاهرة محلية تقع في البحرين فقط، وإنما هي حالة عامة نراها في الكثير من دول العالم وشاهدنا عدة صور في مختلف سواحل العالم لموت عشرات الآلاف من الأسماك الصغيرة منها والكبيرة، ومن أهمها وأكثرها تأثيراً وأشدها وطأة بالنسبة لسواحل الخليج العربي ما وقع في سلطنة عمان في صيف عام 2000، وفي الكويت في يوليو عام 2001، وفي البحرين وقعت عدة حوادث في سواحل منطقة عراد وفي خليج توبلي في ساحل النبيه صالح وجرداب وجدعلي والمعامير، مثل حادثة نفوق أسماك الجواف في يونيو 2007، علماً بأنني في مقالات سابقة نبهت إلى هذه الظاهرة وحذرت من تكرارها في سواحل البحرين.

فإذا أردنا أن نُحلل ونشخص هذه الظاهرة البيئية الصحية والاقتصادية الخطيرة علينا وعلى بيئتنا البحرية، ثم نصف لها العلاج الكافي والدواء الشافي، فيجب أولاً أن ننظر إلى الصورة الكبيرة والواسعة، ونُقدم الرؤية الشمولية المتكاملة الواضحة لحالة البحر في بلادنا منذ قرن من الزمن، وما وقع عليه من تجاوزات عظيمة لا تغتفر، ومن تعديات شديدة لا تحتمل، فجميع حرمات بيئة البحر تم استباحتها واستنزافها لعقودٍ طويلة من الزمن، وتم غض الطرف عنها، وتجاهلها، وعدم الاهتمام بها، وعدم معالجتها بشكلٍ جذري ومستدام، وكأن شيئاً لم يحدث، وكل هذه التجاوزات لا تنتهي آثارها ولا تزول انعكاساتها، فبعضها يكون بشكلٍ تراكمي يظهر بين الحين والآخر، وينكشف على صورة مظاهر يراها الإنسان، منها تحول البحر إلى اللون الأخضر أو الأحمر، أو النفوق الجماعي للأسماك.

فأول عدوٍ شرس وفتاك للبيئة البحرية جمعاء ولكائناتها الفطرية النباتية والحيوانية هو عمليات حفر البحر لتوسعته وإنشاء القنوات البحرية، أو لاستخراج الرمل البحري لغسله واستخدامه في أعمال البناء والإنشاء، أو لاستخدام هذا الرمل لدفن السواحل. وعمليات الحفر ودفن السواحل كانت ومازالت لها مردودات وانعكاسات سلبية عميقة على بيئتنا البحرية وثرواتها السمكية فنعاني منها حتى يومنا هذا. فهذه العمليات أثرت على نوعية مياه البحر من حيث التأثير على مستوى الرؤية، وكمية الأكسجين الذائب في الماء، وزيادة عكارة عمود الماء بشكلٍ عام، إضافة إلى ما أحدثته عمليات الدفان من تدميرٍ منهجي وعلى نطاق واسع للبيئات الساحلية المنتجة، فأكلت من جسم البحر، وهدمت ودمرت كل كائنٍ حي موجود في تلك المنطقة. كما أن هذه العمليات كوَّنت مستنقعات مائية ضحلة وصغيرة وضيقة لا تتجدد مياهها، ولا تتحرك تياراتها، فلا يمكن أن يعيش فيها أي كائنٍ حي، مما أدى إلى تدهور نوعية المياه فيها ونفوق الأسماك والكائنات الحية الأخرى التي تعيش تحت ظلها.

والعدو الثاني للبيئة البحرية ومواردها الحية هو استنزاف المخزون السمكي بالصيد الجائر واستخدام وسائل وشباك الصيد المحرمة دولياً وغير المشروعة محلياً والتجاوز عن عمليات الصيد في كل الأوقات المسموح بها وغير المسموح بها، فهذه الشباك تصطاد كل أنواع الأسماك التجارية وغير التجارية الصغيرة منها والكبيرة، فالأسماك غير التجارية والصغيرة الحجم كانت ترمى وهي ميتة على ساحل البحر فنشاهدها أمامنا كظاهرة نفوق للأسماك.

والعدو الثالث والمستمر هو المخلفات السائلة للمصانع ومحطات مياه المجاري ومصانع تحلية المياه، وقد وثَّقتْ في العقود الماضية مواقع المخلفات السائلة السامة التي كانت تستقبل إسالات المصانع، إضافة إلى ساحل خليج توبلي الذي تحول من قبل إلى مقبرة لمياه المجاري المعالجة جزئياً وغير المعالجة، وهذه المياه الآسنة التي بعضها سام والآخر حار وشديد الملوحة، أو يحتوي على مستويات مرتفعة من الملوثات العضوية وغير العضوية من فوسفور ونيتروجين، أدت إلى تكوين بيئات مائية مشبعة بالطحالب الخضراء والحمراء السامة، ومنخفضة التركيز للأكسجين، مما يؤدي إلى اختناق الأسماك وموتها ومشاهدة حالة النفوق الجماعي للأسماك وهي تطفو كجثة هامدة تشتكي حالها وما جرى لها.

وكل هذه العوامل التي هي من صُنع أيدينا لسنواتٍ طويلة من الزمن تتفاعل مع بعض وتتفاقم مع عوامل طبيعية لا شأن لنا فيها، ولا دخل لنا في وجودها، مثل ارتفاع درجة حرارة الجو وشدة حرارة المياه وانخفاض عام في كمية الأكسجين الذائب في الماء، إضافة إلى وجود بحيرات ضحلة غير عميقة وضيقة ولا توجد بها منافذ كثيرة، فكل هذه العوامل تتجمع مع بعض وتتراكم في بعض الحالات الحادة فتؤدي إلى نفوق الأسماك، وبخاصة الأسماك الصغيرة الشديدة الحساسية لأي تغيير فجائي يقع في البحر، وبخاصة في أشهر الصيف عندما ترتفع درجة حرارة الجو وماء البحر.

وختاماً إن ما حدث عندنا في البحرين قبل أيام، وتكرر وقوعه عدة مرات في السنوات الماضية، فهو في تقديري أولاً لأسباب طبيعية لا دور لنا فيها ولا نتحمل مسؤوليتها، وثانياً لأسباب صنعتها أيدينا ونتيجة لأنشطتنا التنموية التي تجاهلت في بعض المراحل الاعتبارات البيئية، فهذا العاملان الطبيعي والبشري تفاعلا مع بعض وانكشفا على شكل "نفوق جماعي للأسماك".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق