الخميس، 15 أغسطس 2019

قانون البيئة أصابه الصدأ(الجزء الثاني)


أكدتُ في مقالٍ سابق على أن التغيير ضرورة حياتية لاستدامة حياة الأمم والشعوب وضمان أمنها واستقرارها ونموها وتقدمها ومواكبتها للتطورات على الساحتين الدولية والإقليمية، وبالأخص في قطاع القوانين المتعلقة بالبيئة وهمومها وشؤونها المتغيرة كل عام، إضافة إلى ملاحقتها لإدارة المشكلات والظواهر البيئية التي تنكشف بين الحين والآخر والتي تتغير بشكلٍ مشهود وكبير مع الزمن، فما أن يعالج الإنسان مشكلة بيئية ويتخلص منها، إذ يجد نفسه أمام قضية أخرى أشد وطأة وأكثر تنكيلاً بصحة الإنسان والأمن البيئي، مما يستدعي قوانين جديدة وآليات حديثة متطورة من الناحيتين الإدارية والفنية.

فالتغيير في القوانين البيئية بصفةٍ خاصةٍ وبشكل دائم مع الوقت يُحرك المياه الراكدة والآسنة والجامدة في مكانها، فلا يجعلها تتحول إلى مستنقعٍ فاسد تنبعث منه الروائح العفنة والملوثات القاتلة، فالتغيير كالنهر الجاري والمستمر الذي لا يتوقف أبداً، فلا يسمح للملوثات والسموم أن تبقى فيه، ويمنعها من التراكم والتضخم والاستقرار.  

وإضافة إلى التغيير المطلوب في التشريعات البيئية، فهناك في الوقت نفسه حاجة ماسة وضرورة ملحة لتغيير المواصفات والأنظمة البيئية التي تخرج من رَحِم هذه التشريعات، فلا بد لها من أن تكون حديثة ومواكبة للتغير في المشكلات والقضايا البيئية المتجددة والديناميكية، ولا بد لها من أن تتابع بكثب الاكتشافات العلمية المتزايدة والمتسارعة، ولا بد لها أخيراً من أن تلاحق وتراقب المستجدات في الأبحاث البيئية والطبية التي تُنشر كل يوم في آلاف الدوريات والمجلات العلمية العالمية حول التلوث عامة، وتأثير الملوثات على صحة الإنسان والحياة الفطرية الحيوانية والنباتية.

فالمواصفات والمعايير التي نضعها اليوم لجودة الهواء الجوي أو نوعية مياه الشرب أو مياه البحر، أو التركيز "المسموح به" لانبعاث الملوثات من السيارات، أو المصانع، أو محطات توليد الكهرباء، قد لا تصلح للتنفيذ بعد سنواتٍ قليلة جداً وتصبح بالية وقديمة، وقد لا تفي بالهدف الرئيس الذي أُقر ووضع من أجله، وهو أساساً حماية صحة الإنسان.

فهناك حقائق بيئية يكتشفها الإنسان كل ساعة، وهناك مستجدات مرتبطة بالتلوث والملوثات الكيميائية والحيوية والطبيعية تظهر كل يوم، ولذلك تشريعاتنا ومواصفاتنا والمقاييس التي نضعها يجب أن تواكب هذه الحقائق وتلاحق هذه المستجدات والاكتشافات.

وسأضرب هنا مثالاً واحداً فقد من بين الكثير من الأمثلة التي أحملها معي لأُوضح هذه الفكرة، وأثبت مصداقيتها وواقعيتها. فغاز الأوزون الذي يتكون من ثلاث ذرات أكسجين يُعد من المضافات الجديدة والحديثة نسبياً إلى قائمة الملوثات التقليدية التي عرفها الإنسان منذ قرون طويلة، حيث إنه لم يدخل في قائمة الملوثات الرئيسة الخاصة بجودة الهواء إلا في السبعينيات من القرن المنصرم عندما تم اكتشافه في الهواء الجوي في الأربعينيات في عدة مدن حضرية كبيرة وفي مقدمتها مدينة لوس أنجلوس الأمريكية.  

فغاز الأوزون يُعد من الملوثات الثانوية، أي أنه لا توجد مصادر تنبعث منها غاز الأوزون مباشرة، وإنما يتكون نتيجة تفاعل بعض الملوثات التي تنبعث من السيارات ومحطات توليد الكهرباء مثل ثاني أكسيد النيتروجين والغازات العضوية المتطايرة، وهذه الغازات تتفاعل مع بعض عند وجود الشمس فتُكون خليطاً معقداً ومدمراً من الغازات المؤكسدة التي تهدد صحة الإنسان والنبات والحيوان والمواد. ولذلك عندما أَصدرتْ الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1970 قانون الهواء النظيف، وضعت مواصفة جودة الهواء للملوثات المؤكسدة الكيميائية الضوئية الكلية، وبمتوسط تركيز لا يتعدى 80 جزءاً في البليون في الساعة الواحدة، ثم في عام 1979 تم تغيير المواصفة لتكون خاصة بغاز الأوزون فقط وبتركيز 120 جزءاً في البليون، كذلك تم تغيير المعيار مرة ثالثة في عام 1997 ليكون التركيز في مدة 8 ساعات لا يتجاوز 80 جزءاً في البليون. وهذه المواصفة لم تبق جامدة في مكانها وثابتة لا تتحرك، فقد جاءتها رياح التغيير السريعة الناجمة عن الأبحاث البيئية الطبية والتي أكدت بأن هذه المواصفة الخاصة بالأوزون لا تحمي الأمن الصحي للإنسان، حيث أجمعت الدراسات أن غاز الأوزون يؤثر على صحة الإنسان بمستويات أقل من هذه المواصفة، مما اضطر الجهات المعنية في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2008 إلى إجراء تغييرٍ رابع على هذه المواصفة، فأصبحت 75 جزءاً في البليون خلال 8 ساعات.

وتواصلت الأبحاث العلمية في مجال الانعكاسات الصحية والبيئية الضارة لغاز الأوزون على البشر والشجر والحجر وأكدت أيضاً على أن المواصفة التي وُضعتْ في عام 2008 تُعد غير صالحة ولا تفي بهدف حماية صحة الناس، فقامت وكالة حماية البيئة الأمريكية في عام 2015 للمرة الخامسة بالتغيير، فانخفض معدل التركيز إلى 70 جزءاً في البليون في فترة 8 ساعات. ومازالت المحاولات مستمرة من قبل الأطباء وعلماء البيئة ورجال القانون لإجراء تغييرٍ سادس على هذه المواصفة، حيث إن آخر الدراسات والأبحاث أشارت من جديد بأن المواصفة السابقة أصبحت بالية وقديمة وغير صالحة للاستعمال، فالمقترح الجديد هو أن تُنزل المواصفة إلى 60 جزءاً من غاز الأوزون في البليون جزء من الهواء الجوي، والآن المعركة انتقلت من العلماء والمختصين إلى رجال السياسة، والذين عادة ما يأخذون في الاعتبار البعد الاقتصادي الناجم عن تنفيذ هذه المواصفة، إضافة على الرضوخ لجماعات الضغط التي تتأثر سلباً عند تنفيذها.

وبعد كل هذه الأدلة والبراهين على ضرورة "التغيير" في التشريعات البيئية والمواصفات والمقاييس الخاصة بتركيز الملوثات في الأوساط البيئية المختلفة والتي لم تتغير في البحرين منذ أكثر من 23 عاماً، فإنني أنتظر هذا "التغيير" بفارغ الصبر، لما فيه تحقيق المصلحة العامة لصحة الإنسان وسلامة بيئته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق