الجمعة، 30 أغسطس 2019

احتراق رئة العالم والتنمية المستدامة


حرائق الغابات، وبخاصة الغابات الاستوائية المطيرة مظهر فطري طبيعي نشهدهُ ونسمع عن وقوعه منذ الأزل، وبخاصة في أشهر الصيف الحارة ومواسم الجفاف وندرة الأمطار، فهي جزء من التوازن الطبيعي في النظام البيئي للغابات، فتقوم بعملية تجددها ونموها وتعطيها القوة والحيوية اللازمتين لاستدامتها، ولذلك فهي تقع بشكلٍ مستمر من غابات سيبيريا الروسية إلى ألاسكا شمال القارة الأمريكية إلى غابات الأمازون في أمريكا الجنوبية، ومروراً بالأحراش الخضراء في أستراليا،  وانتقالاً إلى الغابات الاستوائية الكثيفة والباسقة في منطقة شرق آسيا.

ولكن هذه الحرائق الهائلة التي نشهدها اليوم منذ أشهرٍ طويلة في غابات الأمازون، وبالتحديد الواقعة في البرازيل تتعدى المظاهر الطبيعية لحرائق الغابات التي نراها في مختلف غابات العالم، وتفوق في تداعياتها وأضرارها حالات الحريق الطبيعية، فهي تحولت فعلاً إلى نارِ جهنم حمراء مستعرة، وَقُودها رئة العالم التي يتنفس بها كل كائنٍ حي من إنسانٍ وحيوان، صغيرٍ كان أم كبير، يعيش على سطح الأرض، إذ لا تستمر الحياة بدونها. فقد أكد المعهد القومي البرازيلي لأبحاث الفضاء باستخدام صور الأقمار الصناعية بأن هذه الحرائق هذه المرة زادت كثيراً عن المعدلات الطبيعية للسنوات الماضية، حيث بلغت أعدادها أكثر من 77 ألف حالة حريق هذا العام الجاري.

فهذه الحالة العصيبة غير العادية أيقظت العالم أجمع، وتسببت في وقوع قلقٍ دولي على كافة المستويات، ولا سيما عند زعماء وقادة الدول الصناعية السبع الذين اختتموا أعمال قمتهم في 28 أغسطس في مدينة بياريتز(Biarritz) في جنوب فرنسا، ولكن القلق لم يكن جدياً وصادقاً فقد تعهد أغني دول العالم وأكثرها ثراءً  فقط بدفع مبلغٍ زهيدٍ جداً يبلغ 40 مليون دولار لمكافحة حرائق غابات الأمازون المطيرة في البرازيل، وهذا المبلغ لا يتناسب كلياً مع حجم ومساحة الأرض المحروقة، ولا يتواكب مع أهمية هذه الغابات بالنسبة للإنسانية جمعاء والأضرار التي لحقت بها، وجدير بالذكر فإن الحريق الذي نشب في كنيسة نوتردام الصغيرة والبسيطة في باريس وصلت التبرعات لها إلى بليون يورو خلال أيام معدودات فقط!

فهذه الغابات كما يصفها الجميع هي رئة العالم، فهي التي تمتص غاز ثاني أكسيد الكربون المتهم الرئيس في حدوث الظاهرة الدولية المعروفة بالتغير المناخي والاحتباس الحراري، والتي تؤدي إلى سخونة الأرض ورفع درجة حرارتها، وهي في المقابل أيضاً قلب العالم الذي يضخ لنا الأكسجين الصحي النقي الصافي لاستدامة حياتنا على وجه الأرض، فهذه الغابات إذن تستطيع بفاعلية وبأرخص الوسائل الطبيعية وبدون أي سلبيات أو كلفة مالية كبيرة من مواجهة أخطر وأعقد قضية تعاني منها البشرية وهي التغير المناخي، فهي خط الدفاع الأول للتصدي وإيقاف مد التغير المناخي المستمر على كوكبنا. كذلك فإن هذه الغابات هي التراث الطبيعي النباتي الفطري لكل البشر، فهي المخزون الدائم للتنوع الحيوي بشقيه النباتي والحيواني، وهي الثروة التي لا تنضب ولا تُقدر بثمن، فتَحْملُ في بطنها من كافة أنواع النباتات والحيوانات التي قد تكون العلاج لأسقامنا وأمراضنا المزمنة من حيث الأدوية والعقاقير وغيرهما التي نستطيع أن نستخلصها منهما. وعلاوة على ذلك كله فإن حماية هذا الغابات تضمن لنا استمرارية النمط السائد لهطول الأمطار في المنطقة والتي من شأنها الحفاظ على هذه الثروة للأجيال القادمة وامداد المناطق الزراعية وريها بالماء العذب الزلال الذي لا ينقطع.

ولكن القضية في البرازيل معقدة ومتشابكة، فلها أبعاد كثيرة منها ما هي متعلقة بسيادة الدولة وحقها الطبيعي في الاستفادة من ثرواتها وخيراتها الفطرية، كما أن لها أبعاداً سياسية واقتصادية واجتماعية وبيئية في الوقت نفسه. ولذلك نجد بأن رئيس البرازيل يرفض الدعم المالي للدول الصناعية ويرفض تدخلها في الشأن الداخلي البرازيلي قائلاً بأن الدول الغنية تتعامل مع المنطقة وكأنها "مستعمرة"، أو "أرض خالية لا يوجد فيها بشر".

ولكي تتفهموا وتُقدروا رأي الرئيس البرازيلي، أُقدم لكم صورة مماثلة تُقارب الوضع البرازيلي، فلو جاءت هذه الدول الصناعية الكبرى ووجهت دولنا في الخليج التي تعتمد كلها على النفط بشكلٍ عام كمصدر رئيس للدخل، بأن لا تستعمل البترول حماية للبيئة، لأنه من أنواع الوقود الأحفوري التي تؤدي بشكلٍ رئيس إلى وقوع ظاهرة التغير المناخي وسخونة الأرض، فماذا سيكون موقفنا من هذا التدخل الأجنبي للدول المتقدمة في سياسات دولنا؟

ألمْ تَقُم هذه الدول الصناعية الكبرى الغنية منذ أكثر من قرن من الزمن بتدمير بيئة الكرة الأرضية جمعاء وإفساد مواردها الطبيعية المشتركة من أجل أعمالها التنموية ورفع المستوى المعيشي لشعوبها وتحقيق نمو اقتصادي مزدهر ومشهود؟ أليست هذه الدول الصناعية نفسها التي تعظنا الآن وتفرض رأيها علينا هي نفسها المتهمة بوقوع ظاهرة انخفاض غاز الأوزون في طبقة الأوزون التي هي ملك الجميع وتحمينا وتحمي الكرة الأرضية جمعاء من الأشعة البنفسجية الضارة؟

أليست هذه الدول الصناعية نفسها هي تلطخت أياديها بدماء الشعوب، عندما أجرتْ التجارب النووية في أراضي غيرها، وبخاصة تفجير المئات من القنابل الذرية والهيدروجينية في جزر المارشال في المحيط الهادئ وفي غيرها من المواقع على سطح كوكبنا، فسممت البشر والحجر والأخضر واليابس؟

أليست هذه الدول الصناعية نفسها هي التي استباحت حرمات الهواء الجوي، فلوثت الهواء في كل مكان وتسببت في وقوع قضية العصر، وهي التغير المناخي؟

أليست هذه الدول الصناعية نفسها هي التي سرقت التراث الجيني النباتي والحيواني لدول العالم النامي، فأقامتْ عليها صناعات الأدوية والعقاقير وغيرها، وربحت المليارات من ورائها؟

وعلاوة على ذلك كله، فإن بعض هذه الدول المتقدمة الكبرى ينطبق عليهم قول ربنا: “لمَ تقُولون ما لا تفعلون، كَبُر مَقْتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون"، فعلى سبيل المثال، أَمر ترمب وزير الزراعة لإزالة كل العقبات أمام عمليات قطع الأشجار في غابات تونجاس القومية المطيرة العذراء في ألاسكا، مما يسمح المجال لعمليات أخرى مثل التعدين والتنقيب عن النفط، حسب ما ورد في صحيفة الواشنطن بوست في 28 أغسطس من العام الجاري.

فهذا هو منطق الرئيس البرازيلي، وهو حقه في استغلال الثروات والتمتع بالخيرات الموجودة في بلاده، وبالتحديد غابات الأمازون، وذلك من أجل القيام بالأنشطة التنموية وتعزيز الاقتصاد ورفع مستوى معيشة الشعب. وهناك ثلاثة أنواع من البرامج التنموية التي تُقام في هذه المناطق، منها عمليات التعدين والبحث عن المعادن، ومنها عمليات قطع الأخشاب، ومنها أخيراً عمليات زراعة المحاصيل الزراعية، وبخاصة فول الصويا، والرعي وتربية المواشي.

والمعضلة الدقيقة والشائكة تكمن في أن كل هذه العمليات تقوم على إزالة الغابات بالحرق، أو الطرق الأخرى، فما هو العلاج الأنجع إذن؟

فالمطلوب في مثل هذه الحالات التوازن الدقيق، والاعتدال الحكيم، والتوفيق العادل بين متطلبات التنمية في منطقة الأمازون والشعب البرازيلي بشكلٍ عام من جهة، وحماية هذه الغابات وهذه البيئات البِكْر الفطرية التي لا مثيل لها على وجه الأرض من جهةٍ أخرى، أي بعبارة أخرى تنفيذ مبادئ التنمية المستدامة التي توازن بين أركانها الثلاثة، وهي تحقيق التنمية الاقتصادية جنباً إلى جنب مع التنمية البيئية والاجتماعية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق