الجمعة، 23 أغسطس 2019

تقرير أُممي خطير لم يلتَفتْ إليه أحد!


عندما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم مواجهة المشركين في أول غزوة كبرى من نوعها بين الحق والباطل، وبين الإيمان والضلال، وبين التوحيد والشرك، وهي غزوة بدر العظيمة التي فرَّق الله فيها بين النور والظلام وأظهر دين الإسلام، سار بجيشه المبارك ونَزَلَ عند أدنى ماءٍ من مياه آبار بدر، فرأى أحد الصحابة الخبراء بالشأن العسكري وهو الحبُاب بن المنذر عدم صلاحية هذا الموقع من الناحية العسكرية، فقال يا رسول الله: "أرأيتَ هذا المنزل، أمنزلاً أنْزلكهُ الله ليس لنا أن نتقدَّمه أو نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟"، فقال الرسول: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة"، فأشار الحباب إلى رسول الله بفكرة إبداعية حكيمة قائلاً: " إنَّ هذا ليس بمنزل، فانْهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فنَنْزلهُ ونُغَوِّرْ ما وراءه من القُلَبْ(أي الآبار المائية)، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماءً، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون"، فاستحسن رسول الله هذا الرأي وقال: "لقد أشرت بالرأي"، وأمر الجيش بالتوجه نحو مياه آبار بدر.

فهذه القصة من سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام تؤكد الأهمية الاستراتيجية الحيوية للثروة المائية، سواء عند خوض المعارك والحروب، أو عند القيام بالأنشطة التنموية من مصانع ومساكن، أو عند إنشاء المزارع والحدائق، ففي جميع هذه الأحوال يشترك المورد المائي في إنجاحها وضمان استدامتها، فهو سر الحياة وعماد استدامة وجود الإنسان وكل كائن حي صغيرٍ كان أم كبير على وجه الأرض، إذ لا حياة بدونه، مصداقاً لقوله تعالى: "وجعلنا من الماء كل شيء حي"، فلا تنمية بدون الماء، ولا نهضة بدون الماء، ولا زراعة بدون الماء، ولا تعمير بدون الماء، ولا استقرار ولا أمن بدون الماء.

وهذه الحقيقة المائية التي أكد عليها رسول الله في هذه الغزوة ليست الأولى، فقد قرأنا الكثير من الحوادث من قبل ومن بعد، ومازلنا حتى يومنا هذا وحتى يرث الله الأرض ومن عليها سنواجه هذه الحقيقة، ونتألم ونعاني من تجاهل الإنسان لها ولتداعياتها، وعدم اتخاذ الإجراءات اللازمة والاحتياطات المناسبة لحماية هذه الثروة المائية كمياً من حيث توفير الأحجام المناسبة ليعيش عليها الناس ويعمروا الأرض، أو من حيث صيانتها من الناحية النوعية من ناحية حمايتها من الملوثات والسموم التي تنتقل إليها من مصادر لا تعد ولا تحصى، وتشمل ذلك المياه السطحية والمياه الجوفية التي أودعها الله لنا في أعماق الأرض.

فبين الحين والآخر تصدر تقارير من منظمات دولية لتلفت الأنظار، وتحيي الانتباه نحو هذه الحقيقة الأزلية، وتُنبه جميع دول العالم إلى الوضع المائي الصعب الذي يواجه كوكبنا، والفقر المائي المدقع الذي يعاني منه الكثير من شعوب العالم سواء في الدول الصناعية المتطورة والمتقدمة، أو في الدول النامية الفقيرة والمتأخرة، فالجميع يقف سواسية كأسنان المشط أمام هذه الحالة العصيبة.

فولاية كاليفورنيا التي تُعد من أغنى ولايات أمريكا العظمى تعاني منذ سنوات، وبالتحديد من عام 2011 من قحطٍ مائي شديد جعل الناس يعيشون في ضنك مائي من العيش بسبب قلة الأمطار والتغير المناخي المتمثل في ارتفاع درجة حرارة الأرض، إضافة إلى استنزاف المياه الصالحة للشرب، وهذا الشح في المياه أدى إلى ظهور أزمات وتداعيات كثيرة منها انكماش الأراضي الزراعية وتأثر الأمن الغذائي النباتي والحيواني في الولاية، وفقدان عشرات الآلاف لوظائفهم، ووقوع خسائر اقتصادية قُدرت بنحو2.7 بليون دولار. وهذه الأزمة المائية العميقة والصعبة لا تعاني منها ولاية كاليفورنيا فحسب، وإنما هي ممتدة إلى معظم ولايات أمريكا، فهناك دراسة منشورة في مجلة استدامة الطبيعة(Nature Sustainability) في يوليو من العام الجاري، إضافة إلى تحقيق في مجلة الأسبوع(The Week) في 11 أغسطس من العام الجاري تحت عنوان: "هل تنفد المياه الجوفية في أمريكا؟"، حيث أفادت الدراسة بأن أكثر من 120 مليون أمريكي يعتمدون على المياه الجوفية للشرب والزراعة والصناعة، ونتيجة لهذا الوضع فإن الاستهلاك الشديد للمياه الجوفية أدى أيضاً إلى نضوب سريع لهذه المياه وخلق أزمة عصيبة على المستوى الاتحادي يصعب الخروج منها.

وفي الجانب الآخر من العالم نسمع هذه الأيام عن انقطاع المياه وانعدامها في واحدة من أشهر وأكبر مدن الهند وهي شناي(Chennai) التي يسكنها الملايين من البشر، فهذه المدينة، ومنذ أكثر من سنة تعاني من شحٍ مائي شديد، وجفاف تام في مصادرها المائية، فالبحيرات التي كانت رئة الثروة المائية في المدينة تحولت إلى صحراء جرداء جافة، والمياه الجوفية نضبت بسبب استنزافها بدرجة متسارعة وكبيرة، وهذه الكارثة المائية بالتحديد نظراً لحدتها ووقعها على الملايين من الناس لفتت انتباه العالم، بالرغم من وجود مدن هندية أخرى تعاني من أزمة شح المياه.

وقد نشر معهد الموارد الدولية(World Resources Institute) في السادس من أغسطس من العام الجاري تقريراً مفصلاً ومخيفاً حول الوضع المائي الحرج في مائة دولة من دول العالم، وينذر من وقوع كارثة مائية شاملة، حيث أفاد التقرير بأن الأزمة المائية قادمة لا محالة وأنها ستضرب نحو ثلث سكان العالم ويمثلون 17 دولة. كما أشار التقرير إلى أن 12 من 17 دولة من دول الإجهاد أو الفقر المائي المدقع موجودة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وبخاصة في الخليج العربي، حيث الطبيعة الجغرافية والمناخية الشديدة للمنطقة، والتي تتمثل في الحرارة المرتفعة معظم أوقات السنة، وندرة هطول الأمطار، ومستوى البخر العالي، وقلة وجود المياه العذبة الفطرية الطبيعية، سواء كانت المياه السطحية أو الجوفية، إضافة إلى عوامل بشرية متعلقة بالزيادة المطردة في الطلب على الماء نتيجة للزيادة السكانية المرتفعة، ونسبة النمو العالية، وارتفاع درجة التصنيع والحركة العمرانية الواسعة. ومن جانب آخر هناك عوامل متعلقة بتلوث الهواء بغازات الدفيئة، وعلى رأسها ثاني أكسيد الكربون الذي ينبعث من أية عملية احتراق في السيارات، والمصانع، ومحطات توليد الكهرباء، والطائرات وغيرها مما ينتج عنها ظاهرة التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض، فيزيد الطين بلة ويفاقم من سوء الحالة المائية.

وقد جاءت قطر في المرتبة الأولى من قائمة الدول التي تقاسي من شحٍ شديد في الماء، ثم الكويت في المرتبة السابعة، والسعودية في المرتبة الثامنة، ودولة الإمارات العربية المتحدة احتلت المرتبة العاشرة، وأخيراً البحرين وعمان في المرتبة 12 و 16 على التوالي.

فهذا التقرير من المفروض أن يدق عندنا جرس الإنذار ونُعلن حالة الطوارئ المائية، فلا أحد بمنأى عن هذه الكارثة المائية القادمة، ونتحرك سريعاً وبشكل مباشر لوضع استراتيجية طويلة الأمد قابلة للتنفيذ الفوري، وتتمحور في تقديري في النقاط التالية:
أولاً: رفع كفاءة وفاعلية استخدام المياه في كل قطاعات الدولة الخاصة والحكومية، وبخاصة في مجال ترشيد وتقنين وخفض الاستهلاك، إضافة إلى منع التسربات وإصلاحها فوراً من مصادرها المختلفة.
ثانياً: الاستثمار في مجال مصادر المياه غير التقليدية، وبالتحديد مياه المجاري والمخلفات الصناعية السائلة.
ثالثاً: منع جميع المصادر الملوثة للمياه والتي تؤدي إلى تدهور نوعيتها، سواء أكانت مياه البحر أو المياه الجوفية.
رابعاً: تجنب المشاريع الصناعية والزراعية والسياحية الشديدة الاستهلاك للثروة المائية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق