الأربعاء، 14 أغسطس 2019

قانون البيئة أصابه الصدأ(الجزء الأول)

من سُنن الله في الكون والحياة هي الدعوة إلى التغيير والتحديث والتطوير، فالتغيير هو الحياة، والتغيير يبعث الروح للجسد الميت، والتغير يحيي الجمود والخمول والمياه الراكدة، والتغيير يقوِّم الاعوجاج والخطأ، والتغيير يحرك سكون المجتمع ويفرز هرمونات الأمل والبناء، والتغيير يُسرّع ويُنشط من وتيرة العمل والكسب المستدام.

فالتغيير كلمة إيجابية وديناميكية، تقوم عليه المجتمعات الحية، وتُبنى عليه الأمم، وتحقق للشعوب الارتقاء والنماء والتطور والعيش الرغيد، فتكون الشعوب دائماً متيقظة ومتوثبة تنبض بالحياة والحركة والتجديد، لا يمسها داء النوم والكسل والخنوع والرضا بالقليل وبما مضى وأكل عليه الدهر وشرب.

وهذا التغيير المنشود لا يمكن أن ينجح، ولا يمكن للشعوب والأمم أن تجعله منهجاً للحياة إلا إذا توافرت في المجتمع ثقافة التغيير بدءاً بالمناهج الدراسة وانتهاءً بسياسة الحكومات والسلطات الأخرى في الدول، فالتغيير لكي يستقيم وينشط ويصبح سمة من سمات المجتمع، علينا نزع ثقافة الخوف والترهيب من الدعوة للتغيير نحو الأفضل والأصلح في كافة المجالات وفي جميع القطاعات، وعلينا كذلك خلق البيئة السليمة والناضجة والآمنة لكي نزرع في قلوب المجتمع التفكير دائماً في التغيير البناء والإبداع في التغيير.

ومن هذا المنطلق علينا النظر بعمق وجدية إلى منهج التغيير آخذين في الدرجة الأولى المصالح العليا للوطن والمواطن، ونعمل إلى تغيير وتحديث وتطوير كل ما هو قديم وموجود حالياً، بحيث إنه يتلاءم مع مستجدات وتطورات المجتمع المحلي ولا يتعارض مع ثوابته وقيمه العليا ومبادئه الرئيسة، ويتواكب في الوقت نفسه مع التغيرات التي طرأت على قضايا وتشريعات ومواقف المجتمع الدولي، وبما يجعلنا أخيراً نلحق بقطار التنمية الذي لا يتوقف أبداً ولا يرجع للوراء.     

ومن القطاعات التي تحتاج دائماً إلى المراجعة الجذرية، والمتابعة الحثيثة والمستمرة، وإحداث التغيير فيها، هي التشريعات والقوانين والأنظمة والمواصفات والمعايير المرتبطة بها، وأخص بالذكر هنا قانون البيئة الذي صدر في القرن المنصرم فأصابه الآن الصدأ والتآكل، وبدأ الزمن ينخر فيه، وهو المرسوم بقانون رقم(21) لسنة 1996 بشأن البيئة، حيث مضى على إصداره أكثر من 23 عاماً دون أن يطرأ عليه أي تحديث، أو تجديد، أو مراجعة شاملة وجذرية.

فالقضايا والمشكلات البيئية والظواهر المرتبطة بها تتسم بالديناميكية الشديدة والتغير المستمر، فهي ليست جامدة وثابتة لا تتغير ولا تتبدل مع الوقت، ففي كل زمانٍ مشكلاته وخصوصياته وأولوياته، وفي كل عقدٍ قضاياه البيئية التي تختلف من حيث درجة الحدة وحجم التأثير عن قضايا العقود الماضية، فهناك قضايا بيئية قديمة عالجها الإنسان، وأوجد لها الحلول الناجعة والنافعة فهي لا تتصدر اليوم جدول أعمال دول العالم في المحافل البيئية وفي مؤتمرات الأمم المتحدة المعنية بهموم وشؤون البيئة، وهناك في المقابل قضايا بيئية استجدت على الساحة الإقليمية والدولية وحلَّتْ محل القضايا القديمة في الأولوية، وبحاجة إلى آليات وأدوات أممية مشتركة لمواجهتها ومكافحتها وعلى رأس هذه الآليات الاتفاقيات والتشريعات الإقليمية أو الدولية. كذلك على المستوى القومي، فالمشكلات البيئية التي كُنا نعاني منها قبل أكثر من خمسين عاماً تختلف عن القضايا البيئية المطروحة الآن، والتي تحتاج إلى تشريعات وأنظمة حديثة ومتطورة تواكب هذه التغييرات ولها القدرة على التصدي لها واستئصالها من مجتمعنا.

فعلى سبيل المثال، كانت المشكلة البيئية الرئيسة في مطلع القرن المنصرم هي تلوث الهواء المتمثل في ظاهرة الدخان الأسود الذي يخرج من المصانع والمعامل والمنازل وسيارات الديزل، وخلال عقود من الزمن انتهت إلى حدٍ كبير هذه الظاهرة وتم القضاء عليها، فلا يمكن الآن مشاهدتها في الدول المتقدمة والمتطورة، ثم برزت مشكلة التلوث والتسمم بالعناصر الثقيلة في الخمسينيات من القرن المنصرم، ومن بين هذه الملوثات الرصاص، والكروميوم، والكادميوم، والزئبق، وتمكن المجتمع الإنساني من الحد من هذه المشكلة البيئية إلى درجةٍ كبيرة، فظهرت بعد ذلك مشكلة أخرى متعلقة بتلوث الهواء وهي المطر الحمضي الذي نتج بسبب انبعاث الغازات الحمضية وفي مقدمتها أكاسيد الكبريت، وهذه القضية أيضاً أصبحت الآن جزءاً من الماضي بسبب إزالة الكبريت من الوقود بشكلٍ عام. وما أن تخلص الإنسان من بعض مظاهر تلوث الهواء، إذ وجد نفسه أمام ظاهرة أخرى جديدة لتلوث الهواء لم يعرفها من قبل ولم يشاهدها في السماء، وهي ظاهرة الضباب الضوئي الكيميائي التي انكشفت في الأربعينيات من القرن المنصرم في مدينة لوس أنجلوس الأمريكية والآن نراها في معظم المدن الحضرية في العالم بسبب الملوثات التي تنبعث من حرق الوقود في السيارات ومحطات توليد الكهرباء. وهذه المشكلة البيئية بشكلٍ خاص لم يتمكن الإنسان من القضاء عليها، فهي مشكلة قديمة من القرن المنصرم ومازالت موجودة وحاضرة في سماء مدننا حتى الآن. 

وفي الثمانينيات من القرن المنصرم انكشفت مشكلة بيئية جديدة تتمثل في انخفاض غاز الأوزون في طبقة الأوزون في الاستراتسفير، حيث نجح المجتمع الدولي من خلال بروتوكول مونتريال لعام 1997 بمعالجة هذه المشكلة من خلال وقف استخدام غازات الكلورفلوركربون المسؤولة عن تحلل غاز الأوزون في تلك الطبقة العلوية، فأصبحت هذه المشكلة البيئية الآن جزءاً من الماضي، ورُفعت كلياً من سلم أولويات القضايا البيئية.

وأخيراً وليس آخراً جاءت قضية العصر التي مازالت من دون حلٍ جذري مشتركٍ وشامل بالرغم من مرور أكثر من 27 عاماً على دخولها في الأجندة الدولية البيئية وصعودها يوماً بعد يوم على سلم الأولويات، وهي مشكلة التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض، وقد تيقنت بعض دول العالم، ومن بينها بعض دول الخليج إلى أهمية هذه القضية البيئية فواكبت التطور الإداري والتشريعي المصاحب لهذه القضية الشائكة والمعقدة وشكلت وزارة خاصة بالتغير المناخي والبيئة.

وهكذا تتجدد المشكلات البيئية وتتغير مع الزمن، فكلما استطاع الإنسان السيطرة على مشكلة بيئية محددة ظهرت مشكلة أخرى أشد وطأة من أختها وأكثر تنكيلاً بالإنسان وبيئته وبحاجة إلى أدوات وآليات إبداعية حديثة وجديدة في إدارتها بشكلٍ مستدام، وكل هذه المشكلات تنعكس علينا بطريقة أو بأخرى، وبشكلٍ مباشر أو غير مباشر، ولذلك لا بد من مواجهتها بالقوانين والأنظمة البيئية الحديثة والمتجددة التي تتلاءم معها وتتغير مع تغيرها.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق