الأربعاء، 28 أغسطس 2019

شُكوك مشروعة حول الأغذية العضوية


في الحقيقة فإنني من المدافعين كثيراً عن الأغذية العضوية، ومن المناصرين والمؤيدين بشدة لهذا النوع من الغذاء لسببين رئيسين. الأول هو بيئي، ويتمثل في خفض انبعاث الملوثات إلى الأوساط البيئية المختلفة، سواء أكان هذا الانبعاث إلى الهواء الجوي أو التربة أو المسطحات المائية والمياه الجوفية، إضافة إلى عدم استخدام مبيدات الحشرات والأعشاب التي تُسمم كل مكونات بيئتنا وتدهور أمنها الصحي.

وأما السبب الثاني فهو الأساس في كل هذه العملية وهو حماية صحتنا ووقايتها من الأمراض والأسقام التي تنجم عن الملوثات والمبيدات والأسمدة الكيماوية، إضافة إلى الهرمونات والمضادات الحيوية التي تُستخدم في القطاع الزراعي التقليدي بشكلٍ عام.

فالأغذية العضوية من المفروض أن تَقِينا أولاً وتحمي صحة بيئتنا وتصونها من شر الملوثات والمواد الكيماوية والأدوية التي عادة ما يستخدمها المزارع في حقله، فيصبح هذا النوع الجديد من الزراعة مستداماً ويصب في تحقيق التنمية المستدامة في القطاع الزراعي.

ولكنني بعد أن قرأتُ خبراً محزناً ومقلقاً في وسائل الإعلام الأمريكية في العشرين من أغسطس من العام الجاري، صُدمتُ كثيراً، وأُصبت بردة فعل قوية تجاه الأغذية العضوية، وبدأت الريبة تثور في نفسي، وأصبحتُ أشكُ كثيراً في مدى مصداقية وصحة هذه الأغذية العضوية عندما أراها أمامي في البرادات، وفي المحلات التجارية الأخرى.

والآن أصابني الوسواس الخنَّاسْ، وبدأتُ أسأل نفسي: هل المنتجات التي أجدها في المحلات ومكتوب عليها بأنها "عضوية"، هل بالفعل هي كذلك، أم إنها ادعاءات كاذبة، وغش تجاري، وتحايل من الشركات الكبرى للترويج لبضائعهم وتسويق منتجاتهم وبأغلى الأسعار ودون الاعتبار لأخلاقيات المهنة وصحة الناس؟

ويرجع السبب في هذا التغير في اتجاهي ورأيي حول الأغذية العضوية هو الفضيحة الكبرى وعملية التحايل العظمى التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً وقام بها مزارع أمريكي كبير اسمه راندي كونستانت(Randy Constant) من ولاية ميسوري، والذي ضلَّل الشعب الأمريكي كله لمدة سبع سنوات، وبالتحديد من عام 2010 إلى 2017، بل وغش العالم كله بكذبه وافتراءاته وادعاءاته بأن المواد الغذائية التي يزرعها في حقله العظيم وهي الذرة وفول الصويا أنها منتجات زراعية "عضوية"، أي سليمة من الناحيتين البيئية والصحية، وكان يبيعها طوال هذه السنوات كعلف على مزارع الدجاج والأبقار والمواشي بشكلٍ عام بأغلى الأسعار. وكان الشعب الأمريكي رغبة منه في الحفاظ على صحته وسلامة بيئته يشتري منتجات الدجاج من بيض ولحم ومنتجات الأبقار من حليب ولحم وغيرهما، ويعيش في الوهم بأنها مواد غذائية عضوية خالية من المواد الكيماوية الصناعية ولا توجد بها الملوثات والشوائب الضارة والمسرطنة الموجودة في المزارع التقليدية المعروفة لدى الجميع.

وبعد أن قام مكتب التحقيقات الفيدرالي(إِف بِي آي) بسبر غور هذه المزرعة عن كثب، والتحقيق في ممارساتها اليومية والمواد التي تستخدمها في الزراعة، تأكد بأن كل عملياتها مزيفة وخادعة ومضللة ولا تنتمي كلياً إلى تصنيف المزارع العضوية، بل وبعد التحقيق تبين بأن هناك حقولاً أصغر تمارس الغش والخداع نفسه، وتسمي نفسها بأنها عضوية. 

وبعد تقديم الأدلة الدامغة والوثائق اللازمة في المحكمة، اعترف صاحب هذه المزرعة المزيفة بذنبه وتضليله للشعب الأمريكي في العشرين من ديسمبر 2018، وحُكِم عليه بالسجن لمدة عشرة أعوام، حيث صدر الحكم في 16 أغسطس، ولكنه وُجد ميتاً منتحراً في العشرين من أغسطس في المرآب، في كراج السيارة، وكان سبب الموت هو استنشاق القاتل الصامت، وهو غاز أول أكسيد الكربون العديم اللون والطعم والرائحة، والذي ينبعث عند احتراق الوقود في السيارة، حيث يتحد هذا القاتل الصامت مع هيموجلوبين الدم وينتج الكربكسي هيموجلوبين، مما يعني عدم وصول الأكسجين إلى خلايا الجسم، فيتسمم الإنسان ببطء مع الوقت، ثم يلقى حتفه ويسقط في مكانه صريعاً.

فهذه الحالة المأساوية تُضيف قصة جديدة أخرى إلى الحالات التي ذكرتُها لكم في مقالات سابقة عن جشع الشركات العظمى وهمُّها الوحيد في جمع المال وكنزه بأية وسيلة ممكنة، مهما كانت شرعية أم غير شرعية. كما أن هذه القصة الكارثية تؤكد مصير الكذب والغش وتضليل الناس، فإما أن يُدخل صاحبه في غياهب السجون، وإما أن يأخذ بيده إلى العيش الكئيب والتعيس ثم إلى الانتحار.

وهذه الحالة بالتحديد تُسبب حرجاً شديداً لكافة المعنيين والعاملين بالأغذية العضوية من شركات وجمعيات ومنظمات، فكيف يستطيعون بعد هذه الفضيحة المدوية أن يقنعوا الناس ويكسبوا ثقتهم في كل أنحاء العالم بأن ما ينتجونها من أغذية هي فعلاً عضوية وسليمة وصحية؟

فلا شك بأن هذه الطامة المهنية العصيبة ستؤثر سلباً على سمعة ومصداقية صناعة الأغذية العضوية بشكلٍ عام بين الناس، فهل بعد هذا سنشتري أغذية تدَّعي بأنها عضوية؟       

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق