الأربعاء، 21 سبتمبر 2011

سفنٌ في الصـحـراء

قبل أكثر من 25 عاماً نَشرتُ مقالاً في صحيفة أخبار الخليج تحت عنوان “سفن في الصحراء”، وهذا المقال تناول أكبر كارثة بيئية وصحية واجتماعية صنعتها أيدي البشر، ووقعت في بحيرة آرال(Aral Sea) في كازاخستان(Kazakhstan) عندما كانت تحت احتلال الإمبراطورية السوفيتية الزائلة.

فقد شَدَّني لكتابة المقال المنظر الغريب الذي لم أشهده من قبل، وهو منظر السفن الخاوية على عروشها وهي جاثمة في وسط صحراءٍ جرداءٍ قاحلة بيضاء اللون، وكأنها تنتظر من يحملها إلى وسط البحر، كما استغربت من صور الأخاديد المهجورة التي تَسِير آلاف الكيلومترات في بطن الصحراء، وهي خالية لاشيء فيها سوى الغبار والأتربة.

كل هذه المشاهد الحية الغريبة دفعتني إلى سبر غورها، والتعرف على ملابساتها وكيفية وأسباب نشؤها.

لقد كانت تلك المنطقة الصحراوية البيضاء اللون في يوم من الأيام جنةُ الله على الأرض، تمتع بحياة مزدهرة وغنية ومتنوعة من البشر والحياة الفطرية بأنواعها المختلفة، وقد اعتمدت هذه الحياة الثرية على قلبها النابض في وسط هذه المنطقة الجرداء الجُرُزْ، والمتمثل في وجود رابع أكبر بحيرة في العالم، هي بحيرة آرال، فمساحتها كانت 68 ألف كيلومتر مربع، أي  أكبر من مساحة البحرين بنحو 93 مرة.

وقد استمد هذا القلب قوته وحيويته من الأنهار العظيمة التي كانت بمثابة الشرايين التي تمد القلب بالدم النظيف، فكانت هذه الأنهار تغذي البحيرة بالماء العذب الزلال حتى يستمر نبضه وتستديم حياة الملايين من البشر الذين يعيشون عليها.   

ولكن شاءت يد الإنسان أن تتدخل بعشوائية وبدون سلطان وعلم في هذا النظام البيئي الفريد، فقلبت الموازين الربانية الدقيقة، وذلك عندما قام الاتحاد السوفيتي بتحويل مجرى بعض الأنهار إلى قنواتٍ للري لإنشاء إمبراطورية زراعية تقوم على القطن أو ما كان يُعرف بالذهب الأبيض، ومنذ ذلك الوقت انقطعت الشرايين التي تمد قلب البحيرة بالماء العذب الفرات السائغ شرابه، فتحول ماؤها غوراً آسناً وملحاً أُّجاجاً، وأخذت البحيرة يوماً بعد يوم، ورويداً رويداً تفقد جزءاً من جسمها حتى خسرت أكثر من 90% من مساحتها. ومع هذه الخسارة صاحبتها خسائر أخرى في التنوع الحيوي المائي، فتناقصت الأسماك حتى اختفت تدريجياً، فتدهورت الصناعات القائمة على الثروة السمكية، وفقد الناس وظائفهم، وانشلت الحياة في المدن القائمة على هذه البحيرات برمتها، فأغلقت المصانع والمطاعم والفنادق والمحلات التجارية أبوابها، مما أدى إلى هجرةٍ جماعية بحثاً عن لقمة العيش ومصدر جديد للرزق. وعندها تدخل المجتمع الدولي ليحافظ على ما تبقى من هذا التراث الإنساني، فتدخل البنك الدولي لإنقاذ هذه الجثة الهامدة القابعة في غرفة الإنعاش منذ أكثر 30 عاماً، فأَجْرى عملية جراحية سريعة وشاملة في عام 2005 لإعادة النبض إلى قلب البحيرة، وكلفت هذه العملية الأولى قرابة 86 مليون دولار. 

واليوم يُعيد التاريخ نفسه، ولكن هذه المرة في إيران، فالكارثة نفسها قد وقعت، والمشاهد الغريبة نفسها يمكن رؤيتها في بحيرة أروميه(Lake Orumieh) الواقعة شمال غرب إيران. فهذه البحيرة المالحة التي تبلغ مساحتها قرابة 5200 كيلومتر مربع، والتي تُعتبر من أكبر البحيرات على وجه الأرض، وتم تسجيلها ضمن قائمة اليونسكو للمحميات الحيوية، قد أوشكت الآن على الانقراض، كما حدث بالفعل لبحيرة آرال.

فهذه البحيرة الغنية بخيراتها ومواردها الحية تفقد في كل يومٍ شرياناً يمدها بالحياة ورافداً من روافد استدامة حياتها، فالصور الفضائية تؤكد انكماش المساحة وفقدان نحو 60% من مساحتها الأصلية، فالقحط وانخفاض هطول الأمطار، والتغير المناخي وارتفاع درجة الحرارة زاد من معدل تبخر الماء من البحيرة، والأهم من ذلك كله تعدي يد الإنسان بشكلٍ عشوائي وبدون دراسة وعِلْمْ على حرمات هذه البحيرة من خلال بناء زهاء 36 سداً على الأنهار وبناء الجسور فوق البحيرة، مما قطع الشرايين الرئيسة التي تغذي البحيرة وتمدها بالحياة، فانخفض مستوى الماء، وجفت مساحات واسعة من البحيرة.

ونتيجة لذلك انكشفت المردودات السلبية الخطيرة كالتي يمكن مشاهدتها في بحيرة آرال، وتحولت الآن هذه القضية البيئية الصحية الاقتصادية إلى قضية سياسية وأمنية، فقد خرج سكان المدن الذين عاشوا قروناً على هذه البحيرة إلى الشوارع لِيُعبروا عن معاناتهم الشديدة، ووضعهم المأساوي، وسخطهم من حالة البحيرة وحالتهم المعيشية المتدهورة.

وهذا هو حال الإنسان لا يريد أن يتعظ بغيره، ولا يريد أن يستفيد من التجارب السابقة، فيُكرر الأخطاء نفسها التي قام بها الآخرون!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق