الجمعة، 12 أغسطس 2011

غزو فيتنام والعراق والتداعيات البيئية والصحية



وَضعتْ الحرب أوزارها في جنوب فيتنام، ونَست الولايات المتحدة الأمريكية ودول العالم أجمع والأمم المتحدة، بل وتجاهلوا جميعاً التداعيات السلبية البيئية والصحية الخطرة التي تُرهب في كل يوم المجتمع الفيتنامي برمته وتجعله يعاني من كابوس مرعب ينزل عليه في كل ليله، فالتهديدات لصحة وبيئة هذا الشعب البائس المسكين تنكشف سنوياً وحتى كتابة هذه السطور، بالرغم من مرور أكثر أربعين عاماً على انتهاء هذه الحرب.

فالحرب الضروس الشاملة في البر والبحر والجو التي قام بها الجيش الأمريكي في فيتنام في الفترة من 1961 إلى 1971، اُستخدمت فيها جميع الآليات والمعدات والقنابل الفتاكة والمدمرة، إضافة إلى استخدام 11 مليون جالون من “العميل البرتقالي”، وهو مبيد الأعشاب الذي رش بالطائرات للقضاء على غابات الأعشاب والحشائش التي كان يختبئ تحتها المقاوم الفيتنامي ليحمي نفسه من أمطار القنابل الجوية التي كانت تنزل عليه ليلاً ونهاراً.

وهذه المبيدات سببت مشكلة مزمنة للبيئة الفيتنامية والصحة العامة بشكلٍ خاص. فهذه المبيدات كانت ملوثة بأخطر مجموعة من الملوثات التي أنتجها الإنسان، ومجرد ذكر اسمه، يقشعر له الجلد وينتابه شعور بالخوف والرهبة، وهذه المجموعة تُعرف بـ“الديكسين”.

فالديكسين معروف بأنه من المركبات الثابتة والمستقرة، فلا تتحلل عند دخولها في مكونات البيئة، ولها القدرة على الذوبان في الشحم والدهن، ولذلك بعد رشها بالطائرات تحركت من بيئة إلى أخرى، وانتقلت من الأعشاب إلى التربة والمياه الجوفية، ثم إلى الحياة الفطرية التي تعيش هناك، وأخيراً إلى الإنسان، حتى إنها تراكمت بنسبٍ قاتلة في أعضاء جسم الإنسان، وأدت إلى ولادة 500 ألف طفل مُعوق ومشوه حسب التقرير المنشور في مجلة التايم الأمريكية في 2 أغسطس من العام الجاري،كما إن من أخطر الأعضاء والمواقع التي بدأت هذه المركبات التركيز والتراكم فيها هي حليب الأم.

وقد نُـشـرت دراسـة مـيدانـية في مـجلة أمريكية مرموقة اسمها: “علم البيئة والتقانة” (Environmental Science & Technology) في العدد الصادر في الأول من أغسطس من العام الجاري تحت عنوان: “تركيز الديكسين في حليب الأم في فيتنام بعد أربعة عقود من رش مبيدات الأعشاب”. وتؤكد هذه الدراسة وجود تراكيز عالية من الديكسين في حليب الأم، حيث شملت الدراسة عينة من 520 امرأة بعد فترة الحمل، تم تحليل حليبها، وقد تراوح التركيز بين 2.84 إلى 14.10 بيكوجرام من الديكسين في الجرام من الدهن في حليب الأم.

وبالرغم من تعمق وتأصل هذه المشكلات البيئية والصحية في البيئة والشعب الفيتنامي المستضعف والفقير، إلا أن أمريكا تتهرب دائماً من مساعدة هذه الشعب، ودفع مستحقاتها وتحمل مسئولية احتلالها وغزوها لهذا البلد، حيث تركت هذا الشعب يعاني من شتى أنواع الأسقام المزمنة، وتركت البيئة الفيتنامية في معاناة دائمة.

وما حدث للشعب الفيتنامي بِتركه يعيش وحيداً في غياهب التلوث الذي دمر أرضه وبيئته وشعبه، سيحدث فعلاً للشعبين العراقي والأفغاني بعد أن بدأت الفلول الأولى من الجيش الأمريكي من الانسحاب.

وربما الغزو العسكري الشامل للجيش الأمريكي براً وجواً في مدينة الفلوجة بالقرب من بغداد في عام 2003 و 2004 يؤكد لي ما أتخوف من وقوعه. ففي هذه العملية، على سبيل المثال، استخدمت فيها قنابل الفوسفور الأبيض الحارقة واليورانيوم المنضب أو المستنفد، ونجم عن ذلك مشكلات صحية وبيئية مزمنة، تمثلت في ازدياد ولادة الأطفال المشوهين والمعوقين خَلْقياً، إضافة إلى ارتفاع نسبة الإصابة بالسرطان، وهناك الكثير من الدراسات البحثية التي تؤكد وجود مثل هذه الحالات.

فمن سيقوم بعلاج هذه الأعداد الكبيرة من الذين يعانون من عِللٍ مزمنة، ومن سيتحمل تكاليف رعاية المعوقين والمشوهين من الأطفال، سواء في أفغانستان أو العراق؟

ومن سيتحمل مسؤولية إعادة البيئات المدمرة والملوثة في الهواء والبحر والنهر إلى وضعها الطبيعي؟

فإذا لم تتحرك الشعوب والحكومات بقوة من خلال الجمعيات الأهلية ومنظمات الأمم المتحدة المختصة، وتقوم بتقديم الأدلة العلمية القاطعة على وقوع الضرر البيئي والصحي، فلا ينتظر أحد أن تتعاطف أمريكا معنا، أو تتصدق علينا بالمال، وتقوم طواعية بدفع دينار واحد لنا.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق