الخميس، 7 يوليو 2011

المتقاعدون يُؤثرون على أنفسهم

أثناء الحوادث المؤسفة التي مرَّت علينا في مملكتنا الغالية، انكشفت الكثير من الأمور الخفية، منها سلبية ومنها ايجابية.

فمن الأمور الايجابية ظهور الوجه الحقيقي للكثير من المواطنين والمعدن الأصيل المتجذر والمتأصل في خلقه الكريم المتمثل في الوقوف مع الوطن في البأساء والضراء والسراء، كما انكشف بشكلٍ جلي لا غبار عليه حبهم للوطن واندفاعهم في تقديم الغالي والنفيس دفاعاً عن مكتسباته وانجازاته، فقد شمر الكثير منهم عن سواعدهم خدمة لنداء الوطن في ساعة العسرة وعندما ضاقت النفوس وبلغت القلوب الحناجر، فضحوا بأنفسهم من أجل إنقاذ البلد وانتشاله قبل الغرق، فقاموا بالكثير من الأعمال الطَّوْعِية الشجاعة والجريئة، من أهمها القيام بواجب تدريس وتعليم أبنائنا في المدارس لكي لا تتوقف العملية التعليمية ولا تنشل حركة العلم والتعلم في البلاد.

كما أن مثل هذه المواقف المشرفة للإنسان في حالات الضيق والضنك وأثناء الظروف الصعبة القاهرة نراها اليوم في اليابان منذ وقوع أكبر كارثة نووية على البشرية في يوم الجمعة الموافق 11 مارس من العام الجاري، والتي تمثلت في وقوع الزلزال المدمر ثم السونامي الجارف والذي نجم عنهما انفجار أربعة مفاعلات نووية موجودة في مجمعين لتوليد الكهرباء في مقاطعة فوكيشيما(Fukushima)، وبالتحديد في مجمع دايشي النووي(Daiichi) وانتشار الملوثات المشعة في كافة أرجاء المعمورة.

ومنذ ذلك الوقت وحتى كتابة هذه السطور والمعاناة شديدة ومستمرة، فالمفاعلات النووية مازالت ثائرة، وتنبعث منها الملوثات المشعة إلى الهواء والماء والتربة، وجهود المكافحة التقليدية لسد هذه المصادر الإشعاعية لم تنجح كلياً، مما اضطر الجهات المعنية إلى التفكير في طرق إبداعية وجريئة وتشكيل فرقٍ خاصة من الجيش للقيام بهذه المهمات المستحيلة، عُرفت في الصحافة اليابانية بفرق الموت أو الفرق الانتحارية، وتم تكليفها بالطيران بالمروحيات فوق فوهة المفاعلات لرشها بالماء وتبريدها ومحاولة إيقاف المواد المشعة.

وهنا، وبالتحديد في 3 يونيو، أعلنتْ مجموعة من المتقاعدين مكونة من 250 متقاعداً عن العمل، تزيد أعمارهم عن الستين عاماً بالتطوع للقيام بمهمات الموت والمهمات الانتحارية بدلاً من الشباب الذين يعرضون حياتهم للخطر المميت وهم مازالوا في ريعان شبابهم وفي مقتبل عمرهم. فقد آثار هؤلاء المتقاعدون أنفسهم ووافقوا طواعية أن يضحوا بأرواحهم بدلاً من الشباب وحماية لمستقبلهم وأن يقوموا بهذه المهمات التي قد تهدد حياتهم بالمرض والموت.

فالآثار السلبية من هذه الكارثة والتي يظن الكثير من الناس أنها انتهت، مازالت قائمة، ليس على مستوى اليابان فحسب، وإنما على مستوى الكرة الأرضية برمتها. ففي 13 يونيو تم اكتشاف أوراق الشاي الملوثة بالإشعاع في مزارع إيرك للشاي الأخضر(Irk Tea Farms) الواقعة على بعد قرابة 355 كيلومتراً من مكان الكارثة في مقاطعة شيزوكا (Shizuoka prefecture)، وفي 19 يونيو أعلنت الحكومة الفرنسية أنها قد تخلصت من شحنة الشاي الأخضر ووزنها 162 كيلوجراماً في مطار شارل دي جول والقادمة من مزرعة إيرك بسبب اكتشاف السيزيم المشع فيها بنسبٍ تفوق مواصفات الاتحاد الأوروبي.

وفي الوقت نفسه اكتشفت أجهزة مراقبة السلامة في بلجيكا منتجات مشعة في بعض البضائع اليابانية المصدرة إلى بلجيكا في ميناء(Zeebrugge port) وتزيد نسبتها عن المواصفات المعتمدة في الاتحاد الأوروبي.

وفي 26 يونيو أكدت التحاليل المخبرية لعينات البول من المواطنين في قرية ليتات ومدينة كواماتا (Iitate and the town of Kawamata) على بعد نحو 40 كيلومتراً من المفاعلات المشعة، ارتفاع نسبة الإشعاع في البول، مما يؤكد دخول الإشعاع إلى السلسلة الغذائية اليابانية وانتقاله إلى جسم الإنسان، ومن ثم إلى كافة دول العالم عبر الهواء والماء والمنتجات اليابانية.

فتداعيات كارثة القرن الحادي والعشرين ستبقى بظلالها ثقيلة علينا لسنواتٍ طويلة، وحتماً ستؤثر علينا جميعاً دون أن ندري أو نحس بها، أما بالنسبة لليابان فوضعهم مأساوي جداً، وسيكونون بحاجة إلى سواعد جميع رجالهم سواء أكانوا متقاعدين متطوعين أم عاملين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق