الجمعة، 15 يوليو 2011

صيد البلاستيك بدلاً من صيد الأسماك!

إنه من سُخريات الدهر أن يَشْرعَ الصيادون ويركبوا البحر في بعض دول الاتحاد الأوروبي، وبتشجيعٍ ودعم مباشرين من الاتحاد الأوروبي نفسه، من أجل صيد البلاستيك والمخلفات البحرية الأخرى المكدسة في بحار العالم بدلاً من صيد الأسماك والربيان كمصدر للرزق والعيش الكريم.

وإنه من الغريب حقاً، وربما من علامات آخر الزمان، أن تقوم المصانع بإنتاج شباكٍ خاصة لصيد المخلفات البلاستيكية الجاثمة فوق سطح البحر وفي أعماقه بدلاً عن شباك صيد الأسماك والكائنات البحرية الأخرى.

فقد طرح الاتحاد الأوروبي ممثلاً في المفوض الأوروبي المسئول عن الثروة السمكية مشروعاً تجريبياً فريداً من نوعه يُقدم مصدراً جديداً ثرياً للرزق للصيادين ومكسباً سهلاً ومضموناً للعيش، حيث تم تكليف الصيادين في مدينة(Fiskardo) في اليونان، والذين يقومون عادة بحسب حرفتهم ومهنتهم منذ عقود من الزمن بصيد الأسماك في مياه البحر الأبيض، بصيد المخلفات البلاستيكية وغيرها من أطنان المخلفات الطافية فوق سطح البحر، وتم تزويدهم بشباك خاصة لجمع البلاستيك.

ويهدف هذا المشروع إلى ضرب عصفورين بحجر واحد، فالمخلفات تعتبر مورداً مستداماً يعيش عليها الصيادون حيث إنها موجودة في البحر بكميات كبيرة جداً لا ينتهي مخزونها كما ينتهي المخزون السمكي عند الصيد الجائر، فهذا المصدر للرزق سيكون موجوداً دائماً ولن ينضب، كما إن هذا المشروع في الوقت نفسه سيخفف الضغط على المخزون السمكي المتدهور نوعياً وكمياً في كافة بحار العالم. وعلاوة على ذلك، فإن لهذا البرنامج الأوروبي مردودات ايجابية أخرى، فهو سيقوم بإزالة هذه المخلفات الصلبة التي تهدد الحياة البحرية والطيور المائية وتشوه المنظر الجمالي للبحر، وفي الوقت نفسه سيتم نقل هذه المخلفات إلى مصانع لتدوير البلاستيك وإعادة استعماله.

وقد جاء هذا المشروع استجابة للواقع المرير الذي تعاني منه بحار العالم، فقد أكتشف علماء البحار في عام 1997 بقعةً ضخمة جداً في شمال المحيط الهادئ تحتوي على خليطٍ معقدٍ من المخلفات الصلبة التي يقدر وزنها بنحو مليون طن تَدُور في مُحيطها كل يوم مع الرياح والتيارات المائية، وتبلغ مساحتها الحالية نحو 700 ألف كيلومتر مربع، أي أكبر من مساحة البحرين بنحو 900 مرة.

وهذه المخلفات الصلبة التي تجمعت وتراكمت في هذه المساحة الهائلة من المحيط الهادئ، أصبحت الآن وكأنها دخلت في حظيرة أو ”قرقور“ لصيد الأسماك وجثمت في سجنٍ كبيرٍ مُغلق الأبواب، ولا يمكن الخروج منه. وهذه المخلفات لم تصل كمياتها إلى هذه الأطنان في يومٍ وليلة، وإنما تجمعت خلال عشرات السنين، فالمخلفات بدأت تتراكم يوماً بعد يوم، حتى تحولت إلى بقعةٍ هائلة يراها كل من يُبحر في الجزء الشمالي من المحيط الهادئ، وبالتحديد بين الساحل الغربي لقارة أمريكا الشمالية والجنوبية والساحل الشرقي للدول الواقعة شرق قارة آسيا واستراليا.

وقد أطــلق العـلمــاء على هذه الـمـنـطقــة الضـــخـمـة، البـقعــة العـظيمة للمـخلفـات
(The Great Pacific Garbage Patch)، وتم تقسيمها إلى قسمين حسب منطقة وجودها في المحيط الهادئ، وهما البقعة الشرقية للمخلفات، والبقعة الغربية للمخلفات.

أما أنواع المخلفات الصلبة المسجونة في هذه البقعة من المحيط الهادئ فتشتمل على البلاستيك، وبالتحديد العبوات والزجاجات البلاستيكية، وسدادات الزجاجات، وفرشاة الأسنان، وشباك وأدوات الصيد، إضافة إلى إطارات السيارات، وكرات القدم والطائرة، وأدوات الحقن والإبر، وغيرها من المخلفات. ومن أخطر هذه المخلفات على الحياة الفطرية البحرية والإنسان، هي المخلفات البلاستيكية الصغيرة الحجم والخفيفة الوزن، والتي يطفو بعضها فوق سطح الماء، والجزء الآخر يَكُون عالقاً في عمود الماء.

فهذه المخلفات البلاستيكية تلتهمها الأسماك الكبيرة فتدخل في أمعائها فتسدها وتموت، وقد أكدت الدراسات الميدانية على موت العديد من أنواع الكائنات البحرية الكبيرة، والتي بعد تشريحها وُجدتْ في أجسامها مخلفات بلاستيكية متنوعة. وعلاوة على ذلك، فإن الطيور البحرية تلتهم المخلفات البلاستيكية العالقة في عمود الماء فتختنق وتموت وقد تنقرض مع الزمن، مصداقاً للدراسة التي نُشرت في مجلة العلوم المعروفة في العدد الصادر في 10 أكتوبر 2008، حيث أكدت على أن واحدة من كلِ ثلاث من الثدييات والطيور البحرية تواجه خطر الانقراض في المستقبل المنظور.

وتأكيداً لخطورة المخلفات البحرية الصلبة، فقد نشرت جمعية حماية البحر البريطانية(Marine Conservation Society)تقريراً في الثامن من أبريل 2009 حول المخلفات الصلبة على سواحل بريطانيا، وقد أفادت نتائج هذه الدراسة إلى أن كمية المخلفات الصلبة تضاعفت عن السنوات الماضية، حيث بلغ عدد قطع المخلفات التي تم حصرها نحو 385659 قطعة، وكان متوسط عدد القطع في الكيلومتر الواحد من ساحل البحر 2195 قطعة، منها المخلفات البلاستيكية التي بلغت نسبتها نحو 20%.

فهذه الدراسة ومثيلاتها من الدراسات الميدانية الأخرى أكدت على واقعية الأزمة الخانقة التي تقاسي منها البحار والحياة الفطرية التي تعيش فيها، وأن هذه الأزمة تحولت الآن إلى قضية عالمية مزمنة تزيد حدتها سنة بعد سنة، مما يؤكد على ضرورة إيجاد الحلول المستدامة والسريعة لإدارتها، وهذا ما جعل الاتحاد الأوروبي يفكر في هذا الحل الغريب المتمثل في صيد البلاستيك عوضاً عن صيد الأسماك.

فهل سيكون صيد البلاستيك هو المصدر الجديد للرزق للصيادين؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق