الأحد، 17 يوليو 2011

هل يجوز التدخل في شؤون الدول؟

القوانين والمواثيق الدولية ومعاهدات الأمم المتحدة والأعراف السياسية لا تسمح لأية دولة في التدخل في الشئون الداخلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدول الأخرى، فلكل دولةٍ حدودها المرسومة والموثقة في البر والبحر، ولكل دولةٍ سيادتها المطلقة على حدودها الجغرافية، ويُحرم على أي فرد دخول هذه الحدود إلا بإذن مسبق ومن خلال القنوات الرسمية المعروفة، كما يحظر في الوقت نفسه على أية دولة انتقاد دولة أخرى على سياساتها وأسلوب إدارة شئونها الداخلية، ويعد أي تدخلٍ من هذا النوع انتهاكاً خطيراً لأعراف ومبادئ ومواثيق العلاقات الدولية.

وتأتي الحِكْمة من هذه السياسة الدولية في أن كل دولة تحكم نفسها بالأسلوب الذي يناسبها ويتوافق مع ثقافتها ومبادئها وتاريخها، وهي الأكثر علماً وخبرة وقدرة في إدارة شئونها وهمومها الداخلية، وخاصة أن إدارة الشأن الداخلي لأية دولة لا يؤثر عادةً بشكلٍ سلبي على الدول المجاورة ولا يضر بمصالحها، وبالتالي فلكل دولة مُطلق الحرية في تبني المنهج والسياسة المناسبة لها، واتخاذ القرارات التي تصب في مصالحها القومية.

ولكن في الشأن البيئي فإن الأمر يختلف تماماً، فالتلوث لا يعرف الحدود الجغرافية المصطنعة بين الدول، فلا توجد فواصل، أو جُدُر مغلقة، أو موانع مادية تمنع حركة الملوثات عبر الحدود الجغرافية للدول المجاورة، ولذلك لا يمكن مهما فعلنا أن نمنع حركة هذه الملوثات، أو أن نحد من انتقالها مباشرة من منطقة إلى أخرى، سواء عن طريق المسطحات المائية المشتركة بين الدول كالأنهار والبحيرات والمحيطات، أو عبر الغلاف الجوي والهواء.

ولذلك إذا أرادتْ أية دولة أن تحافظ على بيئتها وتحمي صحة أبنائها من الأسقام والعلل الناجمة عن التعرض للملوثات في الماء والهواء والتربة، فلا يكفي أن ترعى شئون بيئتها الداخلية وتهتم بحمايتها والمحافظة على أمنها الصحي، إذا كانت في الوقت نفسه الدول المجاورة التي تشترك معها في الهواء الجوي، أو في البحار، أو في البحيرات والأنهار، لا تهتم بمكونات بيئتها، وتقوم بصرف المخلفات الغازية والسائلة إلى الأوساط البيئية من هواءٍ أو مسطحاتٍ مائية. ففي هذه الحالة لا بد من التدخل بطريقة أو بأخرى في الشأن البيئي الداخلي للدول المجاورة لأن أنشطتها تؤثر على سلامة الإنسان والبيئة في الدول الأخرى القريبة منها.

وهذا ما حدث بالفعل بين الكثير من دول العالم المجاورة، وعلى رأسها الصراع السياسي البيئي حول المطر الحمضي بين كندا والولايات المتحدة الأمريكية، والذي استمر أكثر من مئة عام، وخَلَقَ حرباً باردة بين الدولتين الجارتين، حتى أن جريدة نيويورك تايمس الأمريكية أكدت في 30 أبريل 1981 بأن القضية البيئية المتمثلة في المطر الحمضي تُهدد العلاقة بين البلدين الجارين، وقد تحول كندا إلى عدوٍ لَدُودْ لأمريكا.

فبعد أن شاهدت كندا التأثيرات الكارثية للملوثات التي تنبعث من المصانع الأمريكية الواقعة بالقرب من حدودها، والتي تمثلت في نزول المطر الحمضي الذي أكل الأخضر واليابس وأهلك الحرث والنسل، فدمر الغابات والحياة الفطرية التي تعيش عليها، وحول بحيرات كندا المنتجة والغنية إلى مستنقعات ميتة ومقابر جماعية للأسماك لا حياة فيها ولا روح لها، فتضرر الناس وتكبد الاقتصاد خسائر فادحة، عند ذلك اضطرت كندا أن تتدخل بقوة في الشئون البيئية الأمريكية، ودعتها بشدة إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة لخفض انبعاث الملوثات من مصانعها، وبخاص أكاسيد الكبريت والنيتروجين.

ولكن نُواب الكونجرس اعتبروا هذه الدعوة تدخلاً في شئونها الداخلية، فقال بعضهم بأنها تدخلات أجنبية في السياسة الأمريكية وتهدد سيادة أمريكا واستقلاليتها، كما أن الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان تجاهل كل الدعوات الكندية واعتبر أن المطر الحمضي قضية لا أصل لها لعدم وجود الدراسات العلمية الكافية التي تثبت خطورتها. وعلاوة على ذلك فقد منعت وزارة العدل الأمريكية فيلماً كندياً عن المطر الحمضي تحت عنوان: “أحماض من السماء”، ووصفت الفيلم بأنه “دعاية سياسية أجنبية”!

واستمرت كندا في صرعها مع أمريكا، ولم تسكت على الوضع البيئي المتدهور الذي تعاني منها، حتى اقتنعت أمريكا بأن المطر الحمضي قضية تهدد أمن وسلامة البيئة وصحة المواطن في البلدين، وعندها قام ريجن ورئيس وزراء كندا براين ملروني(Brian Mulroney) في عام 1987 بالإعلان عن اتفاقية ثنائية لدراسة هذه المشكلة المشتركة، ثم في ديسمبر 2000 عُقدت اتفاقية الهواء النظيف بين البلدين لخفض نسبة الملوثات التي تنبعث من المصانع على حدود البلدين.

ولذلك نجد أن التدخل في الشأن البيئي الداخلي للدول سياسة واقعية، يؤكدها تاريخ العلاقات بين الدول، إذ أن أية دولة لا تستطيع أن تحمي صحة بيئتها ومواطنيها إذا كانت الدولة أو الدول الجارة لا تقم هي بذلك، بل وإن التدخل وصل الآن إلى المستوى الإقليمي والدولي، بحيث تحتضن منظمات الأمم المتحدة الكثير من الاتفاقيات البيئية بين دول العالم من أجل سلامة الإنسان وصحة بيئة الأرض برمتها، فأسباب وقوع بعض المشكلات البيئية، تُسهم وتشترك فيها كل دول العالم، ولذلك فإن علاجها والتصدي لها لا بد من أن تشترك فيها كل دول العالم بدون استثناء، وتسهم جميعها في الحل، فلا سيادة بيئية لأية دولة إذا كانت القضية بيئية وتؤثر على بيئات الدول الأخرى، وبالتالي يجوز التدخل في الشأن البيئي للدول من خلال معاهدات ثنائية، أو إقليمية، أو دولية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق